تعددت صور الوحي الذي كان ينزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله سبحانه وتعالى. وقد كانت تعتري النبي صلى الله عليه وسلام عند نزول الوحي حالات وأعراض معينة يعرفها بعض الصحابة ..
وفي حين بالغ البعض في صرما يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال حتى قالوا بأنه يصرع أو يقع على الرض وغير ذلك فإن الثابت التي جاءت به الأحاديث هو ما ذكرته اللجنة العلمية لسؤال وجواب، ومن هذه الحالات ما يلي:
1. أنهم كانوا يسمعون عند وجهه دويّاً كدويّ النحل .عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل " . رواه الترمذي ويمكن أن يكون صوت دوي النحل باعتبار ما يسمعه من حول النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما هو صلى الله عليه وسلم فيسمعه كصلصلة الجرس .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس ؛ لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين - كما في حديث عمر " يُسمع عنده كدوي النحل " - والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين ، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه .
2. أن جبينه وجبهته تفيضان بالعَرَق حتى في اليوم الشديد البرد .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا " .رواه البخاري ولفظه : " ثُمَّ تَفِيضُ جَبْهَتُهُ عَرَقًا " .( يفصم): ينقطع .( يتفصد ) : يسيل .قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :وفي قولها في اليوم الشديد البرد دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد ، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية ." فتح الباري .
وعن عائشة – في حديث البراءة من الإفك – قالت :حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِى الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الذي أُنْزِلَ عَلَيْهِ .رواه مسلم ( الجمان ) هو حب من فضة يعمل على شكل اللؤلؤ ، وقد يسمى به اللؤلؤ .
3. أنه يثقل وزنه صلى الله عليه وسلم جدّاً حتى إن البعير الذي يكون عليه يكاد يبرك ، وحتى خشي زيد بن ثابت على فخذه أن ترضَّ وقد كانت فخذه رضي الله عنه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم .
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا " .رواه أحمد وصححه المحققون .زاد البيهقي في " دلائل النبوة " قولها " مِن ثقل ما يوحي إلى رسول الله " .الجِران : باطن عنق الناقة .قال السندي – رحمه الله -:قوله ( فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا ) - بكسر الجيم - : باطن العنق ، والبعير إذا استراح مدَّ عنقه على الأرض .حاشية " مسند أحمد " .
وعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قال : " ... فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي " .رواه البخاري.
4. وكان تصيبه الشدة .وعن عائشة – في حديث البراءة من الإفك – قالت : فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ .رواه مسلم.
قال بدر الدين العيني – رحمه الله - :( البُرَحاء ) بضم الباء الموحدة وفتح الراء وبالحاء المهملة الممدودة ، وهو شدة الكرب ، وشدة الحمَّى أيضاً .
5. وكان يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم فيتربَّد ثم يحمرُّ .
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " كَانَ نبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوحي كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ " .رواه مسلم.قال النووي – رحمه الله - :( وتربَّد وجهُه ) أي : علته غبرة ، والربد تغير البياض إلى السواد ، وإنما حصل له ذلك لعظم موقع الوحي ، قال الله تعالى ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاً ) ." شرح مسلم "، وفي قال : ومعنى تربد أي تغير وصار كلون الرماد .
وقد وصف الصحابي الجليل يعلى بن أمية وجه النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه بقوله " فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ ( أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا ) ، كما رواه رواه البخاري .
وقد جمع بينهما النووي رحمه الله فقال : وجوابه : أنها حمرة كدرة ، وهذا معنى " التربد " ، أو : أنه في أوله يتربد ثم يحمر ، أو بالعكس ." شرح مسلم ".
6. وكان صلى الله عليه وسلم ينكس رأسه ، ويغطيه بثوب .
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ نَكَسَ رَأْسَهُ وَنَكَسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ فَلَمَّا أُتْلِىَ عَنْهُ رَفَعَ رَأْسَهُ ) .رواه مسلم .أتلى : ارتفع عنه الوحى، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " ... وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَرَفْنَا ذَلِكَ فِيهِ فَتَنَحَّى مُنْتَبِذًا خَلْفَنَا قَالَ فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَتَانَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) .رواه أحمد وحسنه المحققون .
7. كان صلى الله عليه وسلم يحرِّك لسانه بسرعة وشدة ليحفظ عن جبريل حتى نهاه الله عن ذلك وطمأنه أنه سيجمع القرآن له في صدره .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) قَالَ : جَمْعُهُ لَه فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) قَالَ : فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ .
رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ : " يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ مِنْهُ ".
قال ابن الجوزي – رحمه الله - : تفسير هذا أنه كان يحرك شفتيه بما قد سمعه من جبريل قبل إتمام جبريل الوحي مخافة أن يذهب عنه جبريل وما حفظ فقيل له ( لا تحرك به ) أي القرآن ( لسانك لتعجل به ) أي بأخذه ( إن علينا جمعه وقرآنه ) أي علينا جمعه وضمه في صدرك ( فإذا قرأناه ) أي إذا فرغ جبريل من قراءته ( فاتبع قرآنه ) قال ابن عباس فاستمع وأنصت .
8. وكان يُسمع له غطيط كغطيط البَكر ، وهو الفتي من الإبل .
وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال : " وددت أنى قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي فقال عمر : تعال ، أيسرك أن تنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي ؟ قلت : نعم ، فرفع طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط ، وأحسبه قال : كغطيط البَكر . رواه البخارى.
ولا شك أن كل ما أصاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم من كربٍ وشدَّة لا شك أنه بسبب ثقل الوحي الذي أخبره الله تعالى به قبل إنزاله عليه ، وقد هيَّأه تعالى لذلك التلقي .
قال أبو شامة المقدسي – رحمه الله - :وهذا العرق الذي كان يغشاه صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ، واحمرار الوجه ، والغطيط ، المذكوران في حديث يعلى بن أمية ، وثقله على الراحلة ، وعلى فخذ زيد بن ثابت كما ورد في حديثين آخرين : إنما كانت لثقل الوحي عليه كما أخبره سبحانه في ابتداء أمره بقوله ( إنِّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ، وذلك لضعف القوة البشرية عن تحمل مثل ذلك الوارد العظيم من ذلك الجناب الجليل ، وللوجل من توقع تقصير فيما يخاطب به من قول أو فعل .
قال ابن إسحاق : " وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملهما ولا يستطيع لها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله عز وجل " .
" شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى ".
والصحيح أنه لم يثبت فيما وقفنا عليه من أحاديث أنه كان صلى الله عليه وسلم : يحنق عند فمه ، ولا أنه يتمدد على الأرض عندما يأتيه الوحي ، ولا أنه كان يعض على شفتيه ، ولا أنه يغلق عينيه .