من يتأمل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته يجدها مدرسة زاخرة بالمواقف التربوية الرائعة التي تتعلم منها الأجيال المتتابعة إلى قيام الساعة، ويستلهم منها المسلمون الأخلاق الفاضلة، والأحكام العادلة، التي تصل بهم إلى السعادة في الدنيا الآخرة. ومن المواقف التي نقف معها اليوم في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم موقف من المواقف التي تشيب لها الرؤوس وتقشعر منها الأبدان.. مما يدل عدله وحلمه على من معه فقد كان صلى الله عليه وسلم عادلا لدرجة قد لا يتخيلها إنسان.
وهو درس للعاقل ممن يطلب السلامة والنجاة في آخرته، أن يتحلل في الدنيا من المظالم والأخطاء في حق الغير؛ خشية أن يُحاسَبَ عليها يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه مِن عرضه، أو مِن شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه) رواه البخاري.
قصة سواد بن غزية:
روى ابن هشام وابن كثير وغيرهما: (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح (سهم) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مُستَنْتِلٌ (متقدم) من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: (استوِ يا سواد) فقال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني (مكِّنِّي من القصاص لنفسي)، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: (استقد) (أي: اقتص)، قال: فاعتنقه، فقبَّل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: يا رسول الله! حضر ما ترى، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له: (استو يا سواد!) حسَّنه الألباني. فلم يتردَّد النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء سواد رضي الله عنه حقه في القصاص حين طالب به، مع أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يقصِد إيذاءه وإيجاعه، ليَضرب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً للعدل والقود من النفس.
وعن عبد الله بن جبير الخزاعي رضي الله عنه قال: (طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في بطنه إما بقضيب وإما بسواك، فقال: أوجعتني فأقدني، فأعطاه العود الذي كان معه، فقال: (استقد) (أي: اقتص مني)، فقبَّل بطنه، ثم قال: بل أعفو، لعلك أن تشفع لي بها يوم القيامة) رواه الطبراني.
وفي موطن آخر وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أُسَيْدَ بن حضير، طعنه في خاصرته بعود، فقال أُسَيْد: (أصبِرني (أقدني من نفسك)، فقال: (اصطبرْ) (استقد)، قال: إنَّ عليك قميصاً وليس عليَّ قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبِّل كشحَه (ما بين الخاصرة إلى الضلع)، قال: إنما أردتُ هذا يا رسول الله) رواه أبوداود وصححه الألباني.
قصة وعبرة:
ومما سبق يتبين لنا وجها رائعا من سيرة رسول الله وعدله وحلمه وحبه للحق بل وتواضعه في تنفيذ الحق دون تكبر وهو القائد وإذا كان هذا ما يفعله
رسول الله فلنا فيه وفي صحابته الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة؛ فعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة عاملاً للصدقة، فنازعه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم، فجرح رأسه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: القصاص يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكم كذا وكذا) فلم يرضوا، فقال: (لكم كذا وكذا) فلم يرضوا، فقال: (لكم كذا وكذا) فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم) فقالوا: نعم، فخطب رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أرضيتم؟) قالوا: لا، فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، فقال: (أرضيتم؟) فقالوا: نعم، قال: (إني خاطب على الناس، ومخبرهم برضاكم) قالوا: نعم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أرضيتم؟) قالوا: نعم) رواه أبو داود وصححه الألباني.
قصة المرأة المخزومية:
وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري. قال ابن عثيمين: "وهذا العدل غاية في عدل البشر، لا يوجد عدل يصدر من أي بشرٍ كان، مثل هذا العدل من النبي صلى الله عليه وسلم، ليقطع كل الحجج والوساطات والشفاعات، وهذا يدل على كمال عدله صلى الله عليه وسلم".