عرش الرحمن هو أعظم المخلوقات حجماً وكيفية وأعلاها مكاناً، فهو سقف الكون، وعليه ذو الجلال والإكرام، ولا يدانيه في عظمته شيء من خلق الله، وقد أضافه إلى نفسه إضافة تشريف وتعظيم؛ فيقال: "عرش الرحمن"، ونسبه إلى نفسه كما نسب عظائم مخلوقاته، فقال سبحانه: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ﴾ [سورة غافر: 15]، وقال سبحانه: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ [سورة التكوير: 20].
و ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله: (فإذا سألتم اللهَ فَسَلُوهُ الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة).
ففي هذا الحديث إثبات علو العرش على جميع المخلوقات، وأن الله عز وعلا وجل فوقه مستوٍ عليه، على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى، بعيداً عن خوض الخائضين، وإفك الأفاكين. كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن للعرش قوائم، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يَصعقون يوم القيامة فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش) .
قال ابن حجر: قوله: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾: إشارة إلى أن العرش مربوب، وكل مربوب مخلوق، وختم الباب -يعني البخاري- بالحديث الذي فيه (فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش)، فإن في إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء، والجسم المؤلف محدث مخلوق، وقال البيهقي في "الأسماء والصفات": اتفقت أقاويل هذا التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبّدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتاً وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة. وقد أوكل الله تعالى بهذا العرش ملائكة عظاماً يحملونه، كما قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [سورة غافر: 7].
وقد رأينا ورأى الناس في بعض صور الفلك التقريبية أحجام المجرات والأفلاك، مما يذهل الرائي، ويجعله خاضعاً ذليلاً أمام عظمة الله العظيم، والذي تبدو فيه الأرض كذرة متلاشية وسط الأفق، لا تساوي في ملك الله ولا خلقه شيئاً يذكر، والعرش لا يقدّر قدرَه إلا الله تعالى. والكرسي، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدّر قدره إلا الله تعالى). وفي قوله تعالى:﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، قال ابن عباس: أي: علمه، كما مرّ معنا في رواية، وفي قوله تعالى:﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، فالسماوات السبع والأرضون السبع -على عظم خلقها وسعة حجمها-قد وسعها الكرسي، وغطت سعته على سعتها، بل لقد جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر، ما السماوات عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة). وفي رواية: (كحلقة من حديد).
وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بُسطن، ثم وصلن بعضهن إلى بعض، ما كنَّ في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. فيا سبحان الله ماذا تساوي حلقة من حديد لا تتجاوز ثلاث بوصات بالنسبة لفلاة مثل الربع الخالي، أو مثل الصحراء الكبرى؟! إن النتيجة هي نسبة حجم السماوات والأرض إلى الكرسي، وهي كذلك نسبة حجم الكرسي إلى العرش العظيم، فسبحان من لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وسبحان الله العظيم في ذاته، العظيم في صفاته، العظيم في خلقه وعِلمه.
في ذكر العرش ومكانته عند الله تعالى
أ-الله غني عن عرشه:
إن ما ينبغي التنبيه له في مسألة خلق العرش أنه لا يعني وصف العرش بأنه عرش الرحمن، وأنه بمنزلة السرير للملك، أن الله محتاج إليه، فالله أعظم من ذلك، والخلق كلهم مفتقرون إلى الله، يحتاجون إليه، لا قيام لهم إلا به، والله هو الغني الحميد. قال ابن أبي العز في العقيدة الطحاوية: أما قوله: وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه فليبيّن أن خلقه للعرش لاستوائه عليه ليس لحاجته إليه؛ بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي محيطاً به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها. فالرب تعالى أعظم شأناً وأجلّ من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه؛ وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش وفقر العرش إليه.
ب-اهتزاز العرش لسعد بن معاذ ومأوى أرواح الشهداء في الجنة:
والعرش العظيم حبيب لعباد الله الصالحين، محبّ لهم، متودّد إليهم، فكما أنه اهتزّ لموت سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري، رضي الله عنه؛ فرحاً وسروراً بقدوم روح هذا الصحابي الجليل -كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح- فإن العرش العظيم موئل ومستراح عباد الله الصالحين، ومستظلّهم ومكان اجتماعهم عند ربهم يوم القيامة، فإليه تأوي أرواح الشهداء في الجنة حينما يروحون ويغدون بين خمائلها وبساتينها، قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [سورة آل عمران: 169]. قال: أما إنّا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففَعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا).
ج-العرش مستظَل عباد الله الصالحين:
حينما تذهل المرضعات وتتلاشى الصدقات والقربات، وتدنو الشمس فلا يحول دونها شيء، ويزول كل ظل إلا ظل العرش، كما ثبت ذلك في حديث السبعة الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). وفي رواية عند سعيد بن منصور: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه … الحديث). وقال في الفتح: حديث حسن.
د-العرش ملتقى المتحابين بجلال الله:
والعرش ملتقى المتحابين بجلال الله، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إن الله تعالى يقول: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي).
ه-هو مستظل الرحماء:
الذين يتجاوزون عن عباد الله عند الاقتضاء، كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك لغريمه أو تجاوز عنه كان في ظل العرش يوم القيامة).
و-هو مستقر كتاب رحمة الله:
التي كتبها على نفسه لعباده، كما ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي).
ز-تحته موضع السجود الكريم:
للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حينما تستشفع البشرية به يوم القيامة إلى ربها ليشفع لهم في فصل القضاء، كما في حديث الشفاعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها، ثم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) … وذكر الحديث إلى أن قال: (فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطَ، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي).
اقرأ أيضا:
الفرق بين الكرم والسفه.. بطون المحتاجين أولىح-حملة العرش أحباب الصالحين:
حملة العرش ومن حولهم من الملائكة هم أحباب عباد الله الصالحين، الذين يغمرونهم باستغفارهم ودعائهم لهم عند الله، رحمة بهم وتحقيقاً للحميمية التي تجمعهم بهم في طاعتهم لله عز وجل وقربهم منه سبحانه بأعمالهم الصالحة وحبهم له. كما قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [سورة غافر: 7-9].
إن حملة العرش ومن حوله -وهم من بين القوى المؤمنة في هذه الوجود-يذكرون المؤمنين من البشر عند ربهم، ويستغفرون لهم، ويستنجزون وعد الله إياهم؛ بحكم رابطة الإيمان بينهم وبين المؤمنين. وهؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن. وهم يبدؤون دعاءهم بأدب يعلّمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال، يقولون: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [سورة غافر: 7]. يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم -في طلب الرحمة للناس-إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء، وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء، إنما هي رحمته وعلمه، منهما يستمدون وإليهما يلجؤون. قال تعالى: ﴿ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [سورة غافر: 7].
فالعرش والملائكة من حملته والذين من حوله خلق من خلق الله الذين تربطهم بعباد الله الصالحين وشائج الإيمان بالله عز وجل والعبودية الخالصة له سبحانه، إنها العلاقة الحميمة بين عباد الله الصالحين وبين بقية خلق الله؛ علاقة الانسجام والود والتكريم. فالعرش يهتز لموت سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، والعرش مأوى أرواح الشهداء، ومستظل المتقين، ومستقر رحمة الله الرحمن الرحيم، والإنسان العابد لله يستشعر هذه المودة مع هذا المخلوق العظيم الذي جعل الله فيه من المنافع لخلقه ما لا توازيه منفعة، حينما تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وهو أثر عن القرب من الله العلي الكبير، والإيمان به والتصديق بما جاء عنه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي المعصوم.