جاء في "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي: " إن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته عائشة فقال: من هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب، وريحانة العين وشمامة الأنف، فقال: أمطها عنك، قال: ولم؟! قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البُعداء، ويورثن الشحناء، ويثرن البغضاء، قال: لا تقل ذلك يا عمرو فو الله ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الزمان ولا أذهب غبش الأحزان مثلهن، وانفك لواحد خالا قد نفعه بنو أخته، وأبا قد رفعه نسل بنته، فقال: يا معاوية دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إليّ منهن" .
يقول القول الدارج على لسان العامة: " لا يوجد أحن على الآباء من البنات"، فنعمة وجود الأب في حياة ابنته لا تعوَّض، ودوره لا يُستهان به، ومكانته لا يجب أن ينازعه فيها شخص مهما كان.
ويقع حب البنت في قلب الأب بالفطرة، التي أودعها الله تعالى في سائر المخلوقات، فحب الأب لابنته هو ذلك الحب الذي لا يعرف الأنانية، ولا ينتظر المُقابل، ولا تلوثه غاية، ولا يحوطه شك ولا ريبة، ولا يصحبه منّ ولا أذى، بل هو خلاصة من المشاعر المشحونة بالعاطفة والحنان، ويتسم بالتوازن، فهو ليس كحب الأم الذي ربما يسيطر عليه عاطفة القلب وحدها فتفسده، وربما يسيطر عليه عاطفة الخوف وحدها فتقتله، أو ربما يسيطر عليه عاطفة العقل وحدها فتشوهه وتفقده بهاؤه.
بل إن حب الأب لابنته هو مزيج من عصارة القلب وحكمة العقل دون أن يطغى أحدهما على الآخر، حتى لا يفسد هذا الحب المحبوب.
أسباب الحب
ربما يحب الرجل المرأة لمفاتنها وجمالها، وربما يحب الأب ابنه لأنه سيحمل اسمه ويستمر به نسله، وقد يحب الولد أمه لحنانها عليه، إلا ان حب الأب لابنته هو حب من نوع خاص لا يعرف سره إلا الله سبحانه وتعالى، وعلامته هو الحنان المتبادل بين الجانبين.
فربما تضيق عليك الدنيا، و يقسو عليك الأبناء وربما الزوجة، لتجد نفسك في أحلك الظروف بين ثنايا الحنان حينما تجد ابنتك هي الإنسان الوحيد الذي يبكي لبكائك، ويرق لمشاعرك واحزانك.
لذلك كان حب الأب لابنته هدفه هو أن يجعل منها إنسانة سوية لا تنال منها صعوبات الحياة ولا تحدياتها لأنها تدرك أن هناك من يرقب خطاها ليوجهها ويشملها بنصحه ويدعمها بكل ما أوتي من قوة مادية كانت أو معنوية وهي تفرح لذلك فلا تتأفف من هذا الصنيع ولا تمله.
فإذا كان "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" فإن زينة هذه الزينة هي هذه الابنة الحرة العفيفة الشريفة التقية الورعة التي تعرف لربها حقه فلا تغفل عنه، وتعرف لأهلها حقهم فلا تقصر فيه، وتعرف المهمة التي من أجلها خلقت فتؤديها في مختلف مراحل حياتها دون خلل ولا تفريط.
فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَكْرَهوا البَناتِ؛ فإنَّهُنَّ المُؤْنِساتُ الغَالِياتُ" (رواه أحمد).
اقرأ أيضا:
الامتحان الأصعب.. 3 أسئلة تحصل علمها في الدنيا لتجيب عنها في القبركيف كان حب النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة؟
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما رأَيْتُ أحدًا كان أشبهَ سمتًا وهَدْيًا ودَلًّا. والهدى والدال، برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من فاطمةَ كرَّمَ اللهُ وجَهْهَا؛ كانت إذا دخَلَتْ عليه قام إليها، فأخَذَ بيدِها وقبَّلَها وأَجْلَسَها في مجلسِه، وكان إذا دخَلَ عليها قامت إليه، فأَخَذَتْ بيدِه فقَبَّلَتْه وأَجَلَسَتْه في مجلسِها" (سنن أبي داود).
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فمَن أغْضَبَها أغْضَبَنِي" (صحيح البخاري).
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنَّهُ سُئِلَ عن جُرْحِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَومَ أُحُدٍ، فَقالَ: "جُرِحَ وجْهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وهُشِمَتِ البَيْضَةُ علَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، تَغْسِلُ الدَّمَ وعَلِيٌّ يُمْسِكُ، فَلَمَّا رَأَتْ أنَّ الدَّمَ لا يَزِيدُ إلَّا كَثْرَةً، أخَذَتْ حَصِيرًا فأحْرَقَتْهُ حتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ ألْزَقَتْهُ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ" (صحيح البخاري).
- وهُشِمَتِ البَيْضَةُ علَى رَأْسِهِ: البَيضةُ: الخَوْذةُ.