لا يتوقف الورع الكاذب لبعض الأشخاص على خداع الغير، ولكن يتطاول لأبعد من ذلك، حيث يمتد الأثر النفسي على المخدوع لحد الاكتئاب واليأس، وربما فقدان الثقة في جميع الأشخاص الذين يعيشون من حوله، نتيجة الثقة المفرطة التي كان يضعها في صاحب الورع الكاذب، ليفاجأ بعدها بوجهه الحقيقي، خاصة إذا كان من أشد أصدقائه.
لذلك يقول الشاعر:
احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فربما انقلب الصديق وكان أعلم بالمضرة
لهذا يحتاج المسلم الورع إلى فهم دقيق، وإخلاص عميق، وفقه لا غلو فيه ولا تنطع، وإلا فقد يُفسد بتورعه الفاسد أكثر مما يُصلح، وقد يحبط عمله وهو لا يدري، لأن عبادة الله تعالى لابد وأن تبنى على فهم وإخلاص.
فالورع لابد وأن يشمل الجوارح كلها، فالورع لا يجب أن يكون في جانب دون آخر ، فورع العين غض البصر، وورع اللسان التعفف عن البذاءة وعن آفات اللسان، وورع اليد الكف عن البطش والإيذاء والتعدي، وهكذا مع سائر الجوارح.
وأفضل الورع هو ورع الخلوات فالمؤمن الورع يُوقن أن الله تعالى معه وناظره ومُطلع عليه في كل مكان وعلى أي حال.
اظهار أخبار متعلقة
كيف تعرف الشخص الورع المنافق؟
من صفات الورع الكاذب أو المنافق، أنه يلبس دائما ثوب الانحناء والتدني أمام الغير لادعاء الورع والزهد.
وقد رُوِيَ أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد رأى رجلاً مُتماوتاً، فقال له: "لا تُمِتْ علينا ديننا، أماتك الله"، ورأى رجلاً مُطأطئاً رأسه، فقال له: "ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض" .
أصحاب الورع الكاذب والتدين المغشوش إنما يفعلون ذلك ظناً منهم أن ما يفعلونه إنما هو من تمام الإيمان، وكمال الزهد، ومن لزوم الورع، وسمات التقوى، ونسي هؤلاء وأمثالهم أن الإسلام دين وسط لا يعترف بالميوعة التي ابتدعها النصارى، ولا يُقر القسوة التي ابتدعها اليهود .
وجاء في تاريخ الطبري أن الشفاء ابنة عبدالله رأت فتياناً يقصدون في المشي ويتكلمون رويداً فقالت ما هذا؟ قالوا نُسَّاك. فقالت: "كان والله عُمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، هو والله الناسك حقاً".
الالتزام بالورع الفاسد: مثل ورع أصحاب الأوهام والظنون الكاذبة والبدع والتنطع، ومثل حال أهل الوسوسة في النجاسات وغيرها من الأمور الناشئة عن ضعف دين، وضعف عقل، وقلة علم.
قال سفيان الثوري: "سيأتي أقوام يخشعون رياء وسُمعة، وهم كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام".
ادعاء الورع: رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا في السوق يحمل تمرة وينادي عليها صارخاً "لقد وجدت تمرة فمن صاحبها" ؟ ولما رأى عمر أنه يفعل ذلك تظاهراً بالورع, علاه بالدرة وقال له: دعك من هذا الورع الكاذب!.
وجاء رجل من أهل العراق إلى ابن عمر وقت الحج يسأله عن بعوضة قتلها، فهل عليه دم أم لا؟! فقال ابن عمر: سبحان الله، يا أهل العراق تقتلون ابن رسول الله (أي الحسين بن علي) وتسألون عن دم البعوض!.
ودخل رجل إلى بيته فوجد زوجته تبكي، وعندما سألها عن السبب قالت: إن العصافير على الشجرة مقابل نافذتها ترى شعرها وتخاف أن يكون في ذلك غضب الله، فقبَّلها بين عينيها على عفتها وقطع الشجرة.
وفي يوم من الأيام عاد الرجل مُبكراً فوجد زوجته في أحضان رجل غريب.
فتركها وسافر وبدأ يتجول في الديار، وبينما هو في مدينة نائية وجد جمعاً من الناس وسمع لغطاً فسأل عن السبب فقالوا: خزينة الملك المكنوزة سُرقت.
وأثناء حديثهم مرَّ بهم رجل يمشي على أطراف أصابعه فسأل المسافر الجمع: من هذا؟
فقالوا له هذا كاتب العدل في المدينة.
فقال صاحبنا: فما باله يمشي الهوينى على أطراف أصابعه؟
قالوا: يمشي بهذه الطريقة لأنه يخاف أن يدوس النمل فيكون في ذلك غضب الله.
فصاح الرجل: أيها الملك، أيها الملك كاتب العدل هو السارق وإذا وجدتني كاذباً فاضرب عنقي.
وبعد التحقيق اعترف كاتب العدل بأنه السارق.
فسأل الملك الرجل: كيف عرفت ذلك؟
قال صاحبنا: كل شيئ يبالغ فيه فهو تغطية لجرم أكبر.
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبحقيقة الورع
الورع يجلب محبة تعالى، ويُرضي نبيه صلى الله عليهوسلم، وبه يتم البُعد عن الشبهات، والاحتراز من المعاصي، واستبراء الدين والعرض، وهو سِمة من سِمات الأتقياء الأنقياء.
فالورع المطلوب من المسلم لا يُقاس بشكل ولا بهيئة، ولا يُقاس كذلك بطنطنة اللسان ولا بفصاحة البيان ، ولكنه كما قال الصحابي الجليل يحيى بن معاذ رضي الله: "الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن، فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تُدخل قلبك سواه".
يقول الشاعر
كم عُصبة قد أوغلوا في نُسكهم *** فتنكبوا سُنن الطريق وحادوا
فدع التطرف في الأمور تنطعاً *** إن التطرف صنوه الإلحاد
ويقول الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {61}} [المؤمنون: 57-61].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: "لا تُشَدِّدُوا على أنفُسِكم؛ فيُشَدِّدَ اللهُ عليْكُمْ، فإِنَّ قومًا شدَّدُوا على أنفُسِهم، فشدَّدَ اللهُ عليهم، فتلْكَ بقاياهم في الصوامِعِ والديارِ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتبْنَاهَا عَلَيْهِمْ" .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مَرَّ النبيُّ ﷺ بتَمْرَةٍ في الطَّرِيقِ، قالَ: لَوْلَا أنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا" (صحيح البخاري).