وردت قصة على لسان شاعر العرب أبو الطيب المتنبي يقول فيها:
كنت في أحد أسواق الكوفة واقفا قرب امرأة فقيرة تبيع السمك، فجاء رجل غني جدا معروف لدى الناس بكثرة أمواله، فقال للمرأة : بكم رطل السمك؟
فقالت له : بخمسة دراهم يا سيدى
فقال الغني لها متكبرا: بل بدرهم للرطل الواحد
فقالت له باستعطاف: أنا امرأة فقيرة والسمك ليس لي بل لرجل أبيعه له فيعطيني ما قسم الله لي.
فقال الغني باستعلاء: بل بدرهم ليس أكثر
فقالت المرأة بقلة حيلة : بل بخمسة دراهم
فقال الرجل وهو يشير باستخفاف : زني لي عشرة أرطال
فوزنت له المسكينة عشرة أرطال من السمك على أمل أن تحظى بالثمن كاملا ، فأخذهم الرجل منها بقسوة ورمى عليها عشرة دراهم وذهب مسرعا
فنزلت دموع المرأة و أخذت تنادى عليه فلم يجب
يقول المتنبى: "فناديت عليه بنفسي فلم يجب، لقد كان ذئباً في غناه وبخله ولؤمه، وكانت نملة في ضعفها وفقرها ".
و أنشد يقول :
بعيني رأيت ذئباً يحلب نملة ويشرب منها رائق اللبن
اقرأ أيضا:
سلم أمرك لله.. كل شيء يحدث في أرض الله بمقدور اللهبخس الناس أشياءهم
حذر القرآن من بخس الناس أشياءهم، بل أنه عز وجل أنزل نبيا في قومه لتحذير الناس من هذه المعصية الكبيرة، فمما أمر شعيب قومه {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰاحِهَا}، وكان قد تفشى فيهم البخس والتطفيف، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم فحق عليهم الهلاك.
ولما كان البخس مؤذناً بالعقوبة ومتوعَّداً بالويل، ولما كانت الأمة تعاني من بعض مظاهر البخس فوجب التحذير، فكم من فقير اشتريت منه وبخسته حقه مستغلا حاجته وضعفه أمام نقودك، فالبخس هو نقص الشيء على سبيل الظلم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي؛ إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا).
والنهي عن البخس يشمل جميع ما يمكن بخسه من القليل والكثير، والجليل والحقير، مادياً كان أو معنوياً، فهو يشمل بخس الحق، وبخس المال، ومطل الغني، وبخس البائع للمشتري والمشتري للبائع، والغشّ والحيَل التي تُنتقص بها الحقوق، وبخس الضعفاء كالأيتام والنساء ومن لا حيلة له وأكل حقوقهم، وبخس الأجير وتأخير حقه أو إهانته وإذلاله، وبخس العامل صاحبَ العمل بالتقصير أو عدم الوفاء بالتزامات العقد.
ومن البخس أيضا أن يخطب الإنسان على خطبة أخيه، أو يشتري على شرائه، أو يبيع على بيعه. وبخس المرأة زوجها بكفران العشير، وبخس الرجل زوجته بمنعها حقها أو عدم العدل بينها وبين أختها.
ومن صور البخس عدم نسبة الفضل لأهله؛ وغياب الإنصاف خصوصاً عند الخلاف أو الخصومة، بل السعي لإسقاط من تختلف معه، وإنكار جهود الآخرين ومنعهم حقوقهم، ومن البخس فرض المكوس، والمكّاسون الذين يفرضون ضرائب على الناس ليُمِرُّوهم إلى مأمنهم، والمكس أكل لأموال الناس ظلماً بغير حق، وهو من كبائر الذنوب.
قال تعالى:{يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا}.
فمن أسباب البخس الكِبْر والعُجبِ واتّباع الهوى والحسد.
فبخس الناس أشياءهم ظلم يهدم المجتمع، ويُشيع الهرج، ويدفع لأخذ الحق بالقوة، فيختل الأمن، ويشيع الفساد، وتنقلب الموازين، وتتفرق القلوب وتنتشر العداوة، وهو من أسباب المحق، وزوال البركة، وتعجيل العقوبة، ونزول البلاء، وتسلط الأعداء.
وكما إن البخس ماحق للبركة جالب للبلاء، فإن العدل وإعطاءَ الناس حقوقَهم خيرٌ وقوّة للأمة في نفسها وأمام أعدائها، فلا قوة لها إلا بإقامة العدل.