يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا» (الجن 14)، و(الْقَاسِطُونَ) هنا جمع "قاسط"، وهو الجائر عن الحق الناكب عنه، من الفعل "قَسَطَ" أي ظلم وجار، فمن الجن أيضًا من هم ظالمون، لذلك يكمل الله ليوضح مآلهم في النهاية قائلا: « وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا» (الجن 15).

وبالقياس فإن الظالم هذا هو مآله مهما طغى وتجبر وتكبر، ومهما زاد جبروته وعلا شأنه، فله يوم معلوم لا يعلمه إلا الله عز وجل يأخذه فيه أخذ عزيز مقتدر، ذلك أن جزاء الإعراض عن ذكر الله لابد وأن يكون شديد العقاب، وهو ما يؤكده المولى عز وجل في تكملة آيات هذه السورة العظيمة قائلا: «لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا» (الجن 17).

قاسط عادل

بعض الناس يتصورون أن (لفظة قاسط عادل) تأتي بمعنى العدل، بينما هنا المعنى العكس تمامًا، إذ أن القاسط العادل هذا، هو الجائر عن الحق، والبعيد عن طريقه، فعن سعيد بن جبير : أن الحجاج بن يوسف الثقفي قال له حين أراد قتله ما تقول فيّ ؟ قال : ( قاسط عادل )، فقال القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل ، فقال الحجاج : ( يا جهلة إنه سماني ظالمًا مشركًا )، وتلا لهم قوله : « وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ».


وهي آيات تدل على أن عز وجل قسم الجن أنفسهم إلى أقسام من حيث القرب من الله والبعد عن الله، وهي نفس أقسام الإنس، فمنهم المسلم وهو المؤمن الذي أسلم وجهه لله ولم يشرك بربه أحدًا وانقاد لأمر الله وشرعه، ومنهم القاسط، وهو الجائر الحائد عن الحق المجرم عدو الله وعدو نفسه، وهو خلاف المقسط أي العادل.

اقرأ أيضا:

من دلائل الإعجاز القرآني.. ماذا سيحدث للسفن إن سكنت الريح؟ (الشعراوي يجيب)

الاستقامة

إذن القضية الأهم التي خلقت عليها الأرض، من إنسها وجنها، هي قضية الاستقامة، فمن استقام نال ما تمنى وأكثر، لأنه وعد الله، ولا يمكن أن يخلف الله وعده، قال تعالى مكملا آياته في سورة الجن: «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا»، وكأنه ينبهنا إلى من أراد الاستقامة سقاه الله من نعيم الجنة، وروى عطشه من ظمأ الدنيا.

ومن ثمّ لو استقام أهل الأرض على الكتاب والسنة، ولو استقاموا على التقوى لأكلوا من تحت أرجلهم ولعمتهم البركة، يقول سبحانه: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا) (الجن:16) أي أهل الأرض، (عَلَى الطَّرِيقَةِ) (الجن:16) أي على المنهج السوي، (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن:16) لرزقناهم رزقًا حلالاً طيبًا كثيرًا، وهنا المعادلة، من يستقيم ينول ما يشاء، ومن يعرض يرى ما لا يتمنى (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا).