ورد في كتب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذهب مع عشرة من أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم جميعا، إلى يهود بني النضير يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهد بعدما هاجر إلى المدينة، فاستقبله يهود بني النضير بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم، إلا أنهم كانوا يخططون غدرا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً إلى جدار من بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؛ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال.
فأوحى الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ما يبيت اليهود من غدر فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما ليقضي أمراً، فلما غاب استبطأه من معه خرجوا من المحلة يسألون عنه، فعلموا أنه دخل المدينة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم، ولم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم قال تعالى: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ " [ سورة الأنفال - الآية 58].
احذر الظلم والخيانة
فالأمر الذي يستفيده المسلم هنا أن بيت الظالم والخائن يخرب قبل بيت الكافر، فربما تظن بظلمك أنك تدافع عن وجودك، ولكن إذا كان هذا الوجود خيانة وغدرا فاعلم أنك تخرب بيتك بأيديك، كما فعل اليهود، حينما ظنوا رغم أنهم في معاهدة مع النبي بأنهم سيتخلصون منه، ليجدوا أنفسهم في عدواته، وإعلان الحرب إليهم، رغم أنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك.
وهنا تجهز النبي صلى الله عليه وسلم وحاصر بني النضير وأمهلهم ثلاثة أيام وقيل عشرة ليفارقوا جواره ويجلوا عن المدينة على أن يأخذوا أموالهم ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم، ولكن كان للمنافقين في المدينة رأي آخر إذ أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة، وقالوا لهم: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم.
فتحصن اليهود في الحصون، ولما بلغ الحصار ستاً وعشرين ليلة يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم كما سبق جلاء بني قينقاع على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل.
فكانت النتيجة أن الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه فيحمله على ظهر بعيره أو يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا وخربوا بعض الجدران التي اتخذت حصوناً في أيام الحصار، فنزل قول الله تعالى في سورة الحشر: "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار)" [ سورة الحشر - الآية 2 ].
اقرأ أيضا:
الكسل داء يبدد الأعمار والطاقات.. انظر كيف عالجه الإسلامافتراء الظلم يجلب الخراب
لذلك تحذر هذه القصة النبوية الشريفة مع اليهود، من الغدر والخيانة والظلم، فربما تظن أنك قوي وتظن أنك تزداد قوة بظلمك، لكنه ما لا تعرفه أنك وضعت رقبتك تحت سيف العدالة الإلهية، فيأتيك الله من حيث لا تحتسب، فعندما يزداد الظالم افتراء بجهله ويتحوَّل المظلوم إلى حالة من الصمت قهرًا، والسكوت ذلاًّ، ولم يعُد يملِك حتى التعبير عن ألمه، عندها يكون الظالم قد انتهك كل حُرمات المظلوم، ويظل إلى أن ينتهي من تخريب كل ما يملِكه المظلوم، وتخريب وسائل دفاعه عن نفسه وما يملِك.
ثم يتحوَّل الظالم بعدها لتخريب نفسه؛ لأن التخريب طبْعه، ولن يستطيع التخلص منه؛ فقد أصبح عملية تجري في دمه، وتحدُث إراديًّا ولا إراديًّا، حتى أثناء نومه تكون أحلامه استكمالاً لما بدأ في صحوه.
﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].
وليس أمام المظلوم إلا الصبر وانتظار الفرج لأن دعاءه مستجاب، حتما لا محالة، وحينها سيشعر بمعنى الآية الكريمة: ﴿ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ﴾ [النساء: 104]، وليعلم المظلوم أنه من حُسْن الخُلُق ومن العقل ألا يلتفت لظالمه؛ بالرد عليه بالمِثل، وتخريب ما يملِك إن كان من أهل الدين، فالنجاة في التمسك بمنهج الله عز وجل.