المتدبر لتفسير القرآن الكريم، سيجد العجب العجاب، ولو فتحت كل الكتب وسيرت بنا كل قطرات المياه في البحار والمحيطات ما نفدت كلمات الله (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ومن الكلمات البسيطة التي تؤكد عظمة هذا القرآن، لفظي ( جعلناه ) و ( لجعلناه )، فما الفرق بينهما؟.
سنجد أن اللفظين وردا في سياق منّ الله تعالى على الناس في حياتهم الدنيا، في بضع آيات من سورة الواقعة، حيث نقرأ: «أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)»، وقوله أيضًا في ذات السورة: « أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)».
إعجاز قرآني
والفرق بين الآيتين إعجاز قرآني بليغ، يلفت النظر الى أنه تعالى استخدم اللام في ( لجعلناه ) مع الزرع، ولم يستخدمها في (جعلناه) مع الماء، فما الذي يفيده وجود اللام مع ذكر الزرع وغيابها في ذكر الماء؟.. يقول العلماء: إن وجود اللام في الفعل يشير إلى تغيير الصيرورة، بمعنى أنه بعد أن كان الزرع أخضر ومثمرًا صار حطامًا جافًا لا فائدة فيه.
وجاء سياق الآيات على هذه الصورة لأن الإنسان اشترك في قضية الزراعة بأن حرث الأرض وغرس البذور، ثم تكفل الله تعالى بباقي الأمر فأخرج الجذور لتثبيت الزرع وأخرج الساق والأوراق والثمر ، وبعد أن اكتمل الأمر جاء المنّ من الله تعالى بأن (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا)، أي لغيرنا كينونته من أخضر يانع مثمر الى حطام.
اقرأ أيضا:
هؤلاء اشتروا آخرتهم بدنياهم فكسبوا الدنيا والآخرة.. التجارة مع الله لا تخسر أبدًا هذه فضائلهاقضية الماء
أما غياب اللام في قضية الماء في قوله (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) فلا يعني تغيير كينونته من عذب إلى أجاج، بل يتحدث السياق عن أصل خلق الماء العذب وإنزاله من المزن (الغيوم الممطرة) ، وهي قضية لا دخل للإنسان في حدوثها، فيقول السياق (لو نشاء جعلناه) منذ بدء خلقه ملحًا أجاجًا، ولأنه يتحدث عن بدء خلق الماء فلا معنى لاستخدام اللام في هذا السياق.
وفي ذلك يقول الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره: «لما ذكر تعالى نعمته على عباده بالطعام، ذكر نعمته عليهم بالشراب العذب الذي منه يشربون، وأنهم لولا أن الله يسره وسهله، لما كان لكم سبيل إليه، وأنه الذي أنزله من المزن، وهو السحاب والمطر، ينزله الله تعالى فيكون منه الأنهار الجارية على وجه الأرض وفي بطنها، ويكون منه الغدران المتدفقة، ومن نعمته أن جعله عذبا فراتا تسيغه النفوس، ولو شاء لجعله ملحا أجاجا مكروها للنفوس لا ينتفع به (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) الله تعالى على ما أنعم به عليكم».