الحج رحلة روحانية عظيمة يتجرد فيها الحاج من متاع الدنيا وزخرفها، ويتوجه قلبه وكل جوارحه إلى ربه راجيًا عفوه ومغفرته، مستشعرًا جلال أماكن المناسك والمشاعر التي وقف فيها أنبياء الله وخاتمهم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وما أعظم استشعار تجليات الله على عباده في كل نسك منها من بداية الإحرام وحتى طواف الوداع.
أيها الحاج.. إذا لبست الإحرام انس بهرجة الدنيا,وزينتها وزخارفها ومباهجها ومناصبها . انس ابن من أنت،وانس الحسب والنسب والجاه والسلطان و الوظيفة . انس مكانتك ومنزلتك في دنيا الناس . وربي في نفسك خلق التواضع لله , والتذلل لله . وحبذا التحلي بهذا الخلق في الحج والعمرة وما بعدهما, و طيلة حياتك بعد العودة إلى وطنك .واعلم أن التواضع نتاج التقوى فمن اتقى الله تواضع لله , ومن تكبر كان مفتقدا لتقواها، هكذا يقول الشيخ طارق حسن السقا.
وأنت تلبي استشعر تلبية الشجر والحجر من حولك : ( ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا ) وأنت تلبي استحضر أن من معاني لبيك اللهم لبيك : أن اتجاهي إليك وحدك يا رب, وان قصدي إليك وحدك يا رب , وأن محبتي لك وحدك يا الله, وأن خضوعي لك وحدك يا الله , و أن إخلاصي لك وحدك يا الله . فاستحضر هذا المعاني وأنت تلبي بــ : لبيك الهم لبيك .
وأنت تقول لبيك اللهم لبيك استشعر انك تلبي دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام لما أمره الله بالأمر المعروف : ( وإذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين كل فج عميق ) وتذكر رد الخليل على الرحمن لما قال له : رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلى البلاغ . فنادي إبراهيم: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج إلى البيت العتيق, فسمعه من بين السماء والأرض وكل من في أرحام النساء وأصلاب الرجال . فها أنت اليوم تلبي نداء الله على لسان سيدنا إبراهيم وتقول : لبيك اللهم لبيك . رددها من قلبك وأنت توقن أن وفودك إلى بيت الله كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى وهذا كرم منه وفضل يستحق منك المزيد من الشكر .فلتخرج لبيك الهم لبيك من قلبك وهي تحمل كل معاني الشكر والحمد والثناء لله رب العالمين
ويواصل الشيخ طارق حسن السقا شارحًا ما يجب أن يشعر به الحاج وهو يؤدي المناس فيقول: تذكر أن لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك " ليس مجرد شعار يردده الحاج كلما صعد جبلا أو هبط واديا إنما هو نوع من أنواع التربية العملية للإنسان المسلم, حيث يتكرس في مفهومه سرعة تلبيته لله رب العالمين فيحمل ذلك في ذاكرته ليعود إلى بلده متجسدا هذا الشعار الخالد لبيك اللهم لبيك . فإذا رأى طاعة أسرع إليها متمثلا ذلك الشعار لبيك اللهم لبيك وكذلك وإذا رأى معصية أسرع منها لبيك اللهم لبيك .
و تذكر انك منذ عقدت النية على الذهاب إلى مكة أنك في ضيافة الله .و أنك وكل من يؤدي الفريضة في ضيافة الرحمن فتعهد أن تتعامل مع ضيوف الرحمن بكل رفق ولين وتسامح وحب وتعاون ، تعين الضعيف و المريض وتقضى حاجة المحتاج:{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } أترك الجدل والمخاصمة والشجار وعدم الانشغال بالناس. وكن كالتابعي الذي كان إذا نوى الحج أو العمرة يقول: لقد تصدقت بجسدي على المسلمين،، بمعنى أن أي فعل يتم تجاه جسدي في الحج، مثل ما يحدث من التدافع والضرب وغيره فهذا صدقة منى تصدقت بها على من آذاني .
إذا دخلت المسجد الحرام فتصور نفسك أنك عبد آبق ارتمى في أحضان مولاه داخل بيته ، وخاصة عند الدخول الأول ، وخاصة في الحجة الأولى. احسب نفسك في مقام الله, وأمام حضرته وفي بيته المبجل المقدس ، وأنك تستأذنه في الدخول ، فذلك هو مهوى أفئدة اصطفاها الله من الناس إلى حج هذا البيت المعمور . فهذا الشعور لا يتحقق ولا يتكرر في أي بقعة من بقاع الأرض.لذلك وأنت في هذا المقام تذكر ذنوبك وهفواتك وزلاتك وتقصيرك وأنت في بيت الكريم .اسكب دموع الندم واطلب منه في إلحاح الصفح عما مضى والتوفيق فيما بقى .
وأنت تطوف حول الكعبة تذكر أن الطواف حول البيت صلاة. صلاة في صورة خطوات ودورات ودعوات, فأده كأدائك للصلاة في خشوع وحضور قلب وأدب ورفق بإخوانك أثناء الطواف واستشعر اطلاع الله عليك وأنت تؤدى هذه العبادة حول بيته الحرام ، واعلم أن قلبك هو موضع نظر الرب جل جلاله . فأخل قلبك من كل شيء إلا الله وحب الله ، الإخلاص لله حينئذٍ تسمو روحك وكأنها هي التي تطوف حول البيت وليست الأقدام ، ولتكثر من ذكر الله و الدعاء لك ولإخوانك ولدعوتك وللإسلام والمسلمين . وأنت في هذا المقام لا تنسى أولى القبلتين وثالث الحرمين: المسجد الأقصى الأسير, وأدعو الله أن يرزقك صلاة في رحابه بعد أن يخلصه من براثن اليهود .
وأنت تطوف تذكر أن الملائكة تطوف فوقك. استشعر صورة الملائكة فوقك وهي تطوف . أين؟ . أنها تطوف حول العرش وأين؟ حول بيت الله المعمور في السماء السابعة في نفس النقطة , وبنفس الحركة التي تتحرك بها وبنفس الاتجاه، واسأل نفسك ما هي حالة خشوع الملائكة وذلهم لله تبارك وتعالى؟ فطف مثلهم وفي مثل خشوعهم وذلهم لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبّه بقوم فهو منهم أو هو معهم ) فحاول أن تكون ملائكيّ الطبع في طوافك , وفي حجك , في عمرتك وبعد الحج وبعد العمرة. وعند العودة إلي بلدك. وحبذا التحلي بهذا الخلق في كل شئون حياتك .
وأنت تطوف حول الكعبة المعظمة تعلم كيف تطوف في حياتك حول الأمور العظيمة ولا تجعل طوافك ومحور تحركاتك حول الأمور التافهة والرخيصة .
وأنت تطوف في الأشواط الثلاثة الأولى استحضر نية إظهار قوة المسلمين, وذلك وأنت تنفذ ما يسمى بالرمل والاضطباع وهو إخراج الكتف الأيمن خارج رداء الإحرام ، وتبدأ الطواف على هيئة الجري البطيء ( وهو الرمل )وذلك للرجال فقط، وهذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها عليه الصلاة والسلام، وكانت مناسبة هذا : عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ليقوم بالعمرة . و كان كل أهل مكة - وهم على كفرهم - ينظرون إليه ويقولون : إن محمدا وأصحابه أصابتهم حمى شديدة وأصابهم المرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلا أراهم من نفسه قوة ( فبدأ الصحابة رضوان الله عليهم في إظهار أكتافهم اليمنى، وبدأ في الطواف على هذه الهيئة وفعلوا مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ثلاثة أشواط فقط، وبعد انتشار الإسلام وعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة , أتى البيت ليطوف به ففعل ما فعله في عمرة القضاء، فقال له عمر رضي الله عنه، يا رسول الله: كنت تفعل ذلك لإظهار قوة المسلمين أمام أهل الكفر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذه سنتي ولا بد أن تفعلها وفي نفسك نية ) فاستحضر هذه النية أثناء الرمل والاضطباع , وأدها من هذا المنطلق .
وأنت تستلم الحجر الأسود استحضر معنى المعاهدة مع رب العالمين في هذا الموقف .عاهد ربك على التوبة والرجوع إلى الله. قل في نفسك: يا رب تبت وندمت ولن أعود إلى الذنوب مرة أخرى، وتعاهد الله خالصا: يا رب إني قد خلعت قلبي من كل معصية ومن كل شهوة ومن كل إصرار على ذنب ومن كل فتنة تملكت قلبي قبل أن أخرج للحج أو للعمرة.واحرص على إن تصدق الله ليصدقك .
عند مقام إبراهيم صلى ركعتين إن تيسر وتذكر الصلة الروحية الممتدة عبر الأجيال بيننا وبين سيدنا إبراهيم عليه السلام واستجابة الله لدعواته بأن بعث فينا محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين .
وأنت تشرب ماء زمزم تذكر أنه ليس كغيره من الماء , فقد خصه الله كذلك بخير كثير ولنتذكر عند شربنا منه السيدة هاجر أم إسماعيل , وكم قاسا من العطش قبل ظهور زمزم ، فلنروض أنفسنا على تحمل المشاق في سبيل الله في ميادين الجهاد والعمل لنصرة دينه عز وجل .
وأنت تشرب ماء زمزم تذكر أنه لا بد من الفرج بعد الشدة وأن مع العسر يسرا , فالليل مهما طال لا بد من الفجر . فثق بربك القائل ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) وتأكد أن من سنن الله في الكون إن بعد كل عسر يسرا .
وأنت تشرب ماء زمزم اجتهد في استحضار أكبر عدد من النوايا واشرب منه متيقنا أن ماء زمزم لما شرب له . ومن النوايا التي يمكن استحضارها عند شرب ماء زمزم أن تقول : اللهم إني أشرب ماء زمزم لتغسل عن قلبي كل ران ، وتزيل عن فهمي كل حجاب يحول دون فهم مرادك ومراد رسولك صلى الله عليه وسلم في القرآن والسـنة . اللهم قوي حفظي ، وسدد فهمي، وارزقني الإصابة في اجتهادي ، وأعلِ همتي وأمض عزمي ، وسهل علي العبادة وحببها إلى قلبي يا أرحم الراحمين
إذا وقفت على جبل الصفا تذكر جهر النبي بدعوته. واستحضر ما لاقاه هو وأصحابه الكرام في سبيل توصيلها إلينا نقية خالصة . وتذكر رد عدو الله أبو لهب عليه, واستشعر وأنت على الصفا أنه في هذا المكان معانقة السماء للأرض و نزول قوله تعالى : " تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى نارا ذات لهب *وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد ، وتذكر غضب الله وتوعده لأبي لهب وامرأته بنار جهنم الموقدة جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله. وتذكر التباب والهلاك والسخرية والزراية والمصير المشئوم الذي جعله الله جزاء لكل الكائدين لدعوة الله في الدنيا وفي الآخرة . تذكر هذه المعاني وعاهد ربك من فوق جبل الصفا أن تكون عند عودتك إلى بلدك عونا للدعوة وللدعاة والعاملين في حقل الدعوة . واحذر أن تكون في يوم من الأيام معاديا لدعوة الله بقول أو بفعل .
وأنت تسعي بين الصفا و المروة تذكر أن السعي عبادة وليس مجرد سير هذه الأشواط وإن صاحبها شعور بالتعب و المشقة. ففي هذا المقام تذكر السيدة هاجر وسعيها بين الصفا و المروة بحثاً عن الماء لوليدها الذي أشرف على الهلاك فما أجدرنا أن نتحمل المشاق و السفر و الجهاد في سبيل الله وفي سبيل دعوته , وليكن ذلك تعبداً وتقرباً إلى الله, و زكاة لصحتنا وشغلاً لأبداننا بطاعة الله عز وجل .
في أيام إقامتك بمكة وفى رحاب البيت الحرام ما أروع وأجمل أن تنتهز الفرصة وتؤدى جميع الصلوات و الكعبة المشرفة أمام نظريك .وتذكر إن الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة . فاحرص على الصلاة في المسجد الحرام لتحصل على المزيد من الأجر والثواب .
وفي أيام إقامتك بمكة عش ذكريات أيام الدعوة الأولى في مكة حين تسير في شعابها وبين أرجائها ، هكذا يواصل الشيخ طارق حسن السقا في "صيد الفوائد" التذكير بهذه المعاني الرائعة، فيقول: وتذكر ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم و المسلمون الأوائل ، من إعنات وتعذيب وإيذاء بسبب عقيدة التوحيد ، وتذكر صبرهم وثباتهم وإصرارهم على تبليغ الدعوة .وليكن ذلك لك دافعا على التشبه بهؤلاء الأفذاذ في البذل والعطاء .
في أيام إقامتك بمكة تذكر دار الأرقم بن أبى الأرقم التي ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأبطال الذي اندكت على أيديهم كل الضلالات وحصونها من عبدة الأصنام وعبدة النار ، والروم و اليهود ، واستشعر أنك تسير على أرض سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي أيام إقامتك بمكة اجتهد في هدوء الليل أن تتنحى جانباً في رحاب الكعبة وتتهجد لله وتناجيه وتخبت له وتخشع وتطرق باب الكريم بركعات وسجدات ودعوات ودمعات من خشيته ، وفى هذا الجو الرباني لا تنس أن تسأل الله أن يعز جنده وينصر دينه ويهزم أعداء الإسلام في كل مكان .
حينما يقع بصرك على مشهد الحجيج ابتهج بمشهدهم المهيب، و أدعو الله من قلبك إن يوحد هذه الجموع على يد قائد رباني . يقود هذه الأمة وهذه الجموع لنشر دعوة لا الله إلا الله في ربوع العالمين .ادعوا الله أن يوحد هذه الجموع ليكونوا حقاً كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وليتدارسوا أهم القضايا التي يعيشها العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية ، وكيد الأعداء وكل ما يهم المسلمين .
وأنت على عرفات تذكر أنه ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفه وأنه ليدنو عز وجل ثم يباهى بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ؟ ) ، فاستغل كل دقيقة من دقائق وقوفك بعرفات في الدعاء والذكر والاستغفار والتقرب إلى الله واحذر من تضيع الوقت في اللهو واللغو والقيل والقال . واستحضر أن الله يباهي بك الملائكة في ذلك اليوم فأري الله من نفسك ما يجعلك أهلا لهذه للمباهاة .
تذكر أن من أهداف الوقوف بعرفات أن يصل الحاج إلى معرفة نفسـه، وبالتالي توصله إلى معرفة ربه -كل حسب درجته- تلك المعرفة لن تتأتّى لأحد ما لم يتنازل عن كبريائه وغروره و ذاتيته وأنانيته في مقابل استسلامه وخضوعه لله تعالى والتمسك بدينه ،ففي عرفات حاول أن تخلص وتجتهد في أن تهجر الهوى الذي يحجبك عن الله . حاول أن تتخلص من كل ما يبعدك عن الله . لتعود بعد الحج وقد أصبحت إنسانا صالحا مصلحا .فلا يكفي للمسلم أن يعود بعد الحج صالحا فقط لكن حبذا أن يعود كل حاج بعد الحج إلى وطنه صالحا مصلحا تصلح نفسك وتدعو غيرك للخير وتدله عليه . تعود بعد الحج وقد ارتقت معرفتك بنفسك وبربك . وقد جاء في الحديث: " أن أقرب ما يكون العبد إلى الله حين السجود" (12) نظراً إلى أن الساجد قد وضع أشرف وأكرم ما لديه –وهو جبهته- على الأرض عنواناً للخضوع والانصهار والعبودية وهجران الذات. فهو يرغم أنفه على الخضوع والاقتراب إلى الله. وكذلك الوقوف في عرفات، حيث يجب أن يتجرد فيه الفرد منا من كل شيء لتكتمل له معرفته بربه و بعظمته وبجبروته وبجلاله , وفي نفس الوقت يتعرف الإنسان على حقيقة نفسه من حيث ضعفه وحاجته وافتقاره إلى مالك الملك ورب السماوات والأرض .
وأنت على عرفات تذكر الموقف الأكبر يوم القيامة، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيقفون خمسين ألف سنة، وهم في العرق على قدر أعمالهم كما ثبت في الصحيح نعم !! إنه موقف مؤثر والله،ويزداد تأثيره في النفس حينما يرى الإنسان انصراف الناس من موقف عرفة، ويتذكر بذلك انصراف الناس من الموقف الأكبر: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير ! ويتذكر ذلك ـ أيضاً ـ حينما ينصرف الناس من حجهم إلى بلدانهم : أناسٌ مقبولون قد غفرت ذنوبهم، وآخرون يعودون إلى أوطانهم وليس لهم من حجهم إلا التعب والنصب ـ !! فيا لها من حسرة عظيمة إن لم يقبل من العبد عملُه .
وأنت على عرفات تذكر زلاتك وهفواتك و ذنوبك كلها تذكر كل ما يمكنك أن تتذكره من هذه الزلات والهفوات والذنوب . مررها على مخيلتك . .تذكرها في هذا الموقف , واعترف بعد أن تخليت عن كبريائك وغرورك وأنانيتك أنها ذنوب . ذنوب أغضبت الجبار ساعة أن اقترفتها , ثم استغفر الغفار وتذلل له واطلب منه العفو والغفران . واعلم أن أول شروط الاستغفار الندم على الذنب؛ ثم اعزم على ألا تعود لمثل هذه الذنوب مرة أخرى .
وعند الإفاضة من عرفات ودع هذا الجبل الحبيب , وهذا اليوم المبارك, وهذا الموقف العظيم , و أكثر من ذكر ربك ودعاؤه برجاء القبول امتثالا لقول الله عز وجل ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) والمشعر الحرام هو المزدلفة . والقرآن هنا يأمرنا بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم ; وهو مظهر الشكر على هذه الهداية , ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ضلال . فأكثر من ذكر الله ولا تنشغل بغير ذلك .
وأنت ترمي الجمرات تذكر أنه رمز يهدف إلي تحقيق معنى الانقياد للأمر وتحقيق العبودية بالامتثال ، وإن لم يكن للعقل حظ في هذا الفعل .أيضا تذكر تعرض إبليس لسيدنا إبراهيم عليه السلام لثنيه عن طاعة أمر الله وعدم استجابة الخليل لهذه الوسوسة ، فاستحضر وأنت ترمي كل جمرة خطورة نزغات الشيطان ووسوسته وضرورة مقاومته . استحضر وأنت ترمي الجمرات أن هذا الرمي هو بمثابة بيعة و إعلان ومعاهدة منك أمام الله وأما الخلائق المحتشدة حول الجمرات على العمل الدائم والد ؤوب على دحر هذا الشيطان الرجيم وحزبه اليوم وغدا وفي كل حين. في مني وفي مكة وفي كل بقعة تطأها قدماك .
وأنت ترمي الجمرات تذكر يوم أن أراد الشيطان أن يوسوس لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وأن يغريه بعدم ذبح ابنه إسماعيل فرماه بالجمرات ,ولم يستحب لوسوسته . فاستحضر في قلبك أن رمي الجمرات ما هو إلا رمزا . رمز لرمي الشر بكل صورة وأشكاله الصغيرة والكبيرة . فعاهد ربك فور الانتهاء من رمي آخر جمرة على إعلان الحرب على الشيطان وحزبه , وعلى الشر وأهله وعلى الباطل وأهله, وعلى ا الفساد وأهله في بلدك وفي كل مكان تذهب إليه .
وعند ذبح الهدى وعند توزيعه على المحتاجين من المسلمين في كل مكان تذكر أنها قربة لله ومرضاة له رجاء أن أ يعتقك الله من النار. و تذكر معنى العطف على الفقراء والمساكين وإطعامهم من أفضل الهدي . وتذكر فقراء المسلمين في كل بقاع الأرض . وتذكر إخوانك المسلمين المضيق عليهم شعوبا وإفرادا وجماعات وادعوا الله لهم أن يفرج كربهم ، وأن يبدل حالهم إلي أفضل الأحوال .
عند الحلق أو التقصير استحضر الذلة والانكسار بين يدي الله ، واستحضر إن بكل شعرة تخرج لا بد أن تعقد لله عهدا وولاء بالعبودية والانقياد ، وأنك طأطأت الرأس لتحلق شعرك معلنا أنك راض بفعل كل شيء يرضي الله عز وجل ، وأنك أسلمت الناصية لمن بيده أمرها . فعاهد ربك فور الانتهاء من الحلق أو التقصير على فعل كل ما يرضي الله عز وجل وأنت راضي قانع سعيد مستبشر حتى ولو كان في هذا الأمر مشقة على نفسك .
وعند طواف الوداع استحضر الإحساس بفراق أشرف البقاع وأعظمها على وجه المعمورة . واجتهد أن تجعلها أعز الأماكن وأحبها إلى قلبك . وادعوا الله من أعماق أعماقك , وكلك رجاء وأمل ورغبة في قبول الله هذا الحج ورجاء ألا تكون هذه الزيارة هي آخر عهدك ببيت الله الحرام .
وأنت في الحج أفهم الحج على أنه فرصة لتوسيع المعارف حيث إن التعارف مقصود بحد ذاته. قصده الله في قرآنه حيث
قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فالتعارف له دوره الإيجابي والكبير في حياة المسلم فهو يوسع المدارك , ويصقل المعارف , وينقل الخبرات . وإننا لنستغرب من أشخاص يذهبون ويرجعون من بيت الله الحرام ولا يوسعون دائرة معارفهم مع إخوانهم في العالم الإسلامي الرحيب , إنها فرصة سانحة لكل مسلم أن يكون صداقات أساسها الإيمان وقوامها الحب في الله فربما يسعد الإنسان يوم القيامة بمحبة أخ أحبه لله فقط وفي بيت الله : (وجبت محبتي للمتحابين في ) .
وفى الرحلة إلى المدينة تذكر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم و المسافات التي قطعها وهو مطارد , واستقبال أهل المدينة, وبدئه ببناء المسجد. عش هذه الذكريات العطرة ، وما فيها من إنجازات كبيرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته و الغزوات و الفتوحات وتطهير الجزيرة من الشرك والأصنام ومن اليهود بعد حنثهم العهود كما هي عادتهم التي قررها القرآن .
وفى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم تذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:( مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي ) فعش هذه السعادة الروحية التي هي أقرب إلى سعادة أهل الجنة برضوان الله - واستشعر الصلة الروحية بينك وبين الرسول الحبيب وأنه حريص علينا وبالمؤمنين رءوف رحيم عزيز عليه إعناتنا ، سلِّم عليه وصلِّ عليه وادع الله أن يجازيه عنا خير ما جازى نبياً عن أمته ، وكذلك الخليفة الأول أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وعمر بن الخطاب أمير المؤمنين ، وادع الله أن يحشرنا مع هؤلاء النفر الكرام .
وفي زيارتك لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم احرص على أن تجعل هذا اللقاء حقيقيا، بمعنى أنك لست ذاهبا إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أنت ذاهب للقاء النبي صلى الله عليه وسلم شخصيا، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:( من صلى عليّ وسلّم قيّض الله ملائكة سيارة تبلغني سلام من سلم عليّ.) وحديث آخر يقول فيه صلى الله عليه وسلم(: ما من رجل يصلي ويسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي فأردّ عليه) إذن يجب عليك أن تشعر بعلاقتك وصلتك بالرسول صلى الله عليه وسلم وأن اللقاء لقاء حقيقي ، ويجب أن تستشعر شوقك لملاقاته صلى الله عليه وسلم.
وأنت في مسجد النبي صلى الله عليه اسأل نفسك: هل سيكون لقائي برسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم باردا وعاطفتي فاترة؟ هل ستقول السلام عليكم يا رسول الله وتذهب وفقط؟ وهل صلتي برسول الله مجرّد أمر روتيني لاستكمال العمرة أو الحج؟ والإجابة يجب أن تكون لا . لماذا ؟ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم مفروضة علينا فرضا ، لأنه من المعلوم إن حب الله ورسوله والإسلام والمؤمنين فرض وليس نافلة، فإياك أن يكون حبك للنبي صلى الله عليه وسلم شكليا. بل عاهد ربك ونبيك أن يكون حبك لهما حبا عمليا ما أحياك الله بعد اليوم .
وأنت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم اسأل نفسك: هل سيفرح بي الرسول أم لا؟! هل رصيدي من تطبق سنته القولية والعملية سيجعله يفرح بي,ويبتهج بزيارتي؟ إذا وجدت خيرا فاحمد الله . وإذا كانت الأخرى فعاهد ربك ونبيه وأنت في مسجده آن تجتهد في إتباع هديه وسنته في كل أمور حياتك صغيرها وجليلها .عاهده على أنك ستوثق الصلة بحبه وسنته وأن علاقتك به ستكون مختلفة من اليوم .
وأنت تزور المَشاهد في المدينة تذكر الأحداث التي جرت عليها و التي غيرت وجه التاريخ وزر البقيع الذي يطوى أبطالاً أطهاراً وزر أُحد هذا الجبل الذي دارت عنده غزوة أُحد وتذكر ما فيها من عبر ودروس .
وأنت في المدينة التزم بالسنة في المأكل والمشرب والركوب والنوم وفي كل شيء كان للرسول صلى الله عليه وسلم فيه فعل أو قول أو إقرار.
وتفرغ وقطع نفسك للعبادة وليس للشراء مثل ما يحدث من بعض الناس، والشراء يكون بعد الانتهاء من العبادة بنية الترويح على النفس. وكم من القبيح أن يشتغل العبد بذلك ، والمنادي ينادي ( حي على الفلاح ) وهو في بلد الصلاح والفلاح !!. كن سمحاً في بيعك وشرائك وأعمالك حتى يرحمك الله .
وبعد العودة إلي بلدك و بعد الانتهاء من المناسك احكي لأهلك ولأصدقائك عن الرحلة وعن الروحانيات والمشاعر والفيوضات التي عشتها في الرحلة. احكي لهم عن مشاهداتك وذكرياتك وانطباعاتك .احكي لهم بإخلاص وصدق ولتكن نيتك في ذلك تشويق من لم يحج منهم إلي أداء فريضة الحج خاصة المستطيعين منهم احكي لهم وشوقهم لعلك بتشويقك هذا تفتح قلب أحدهم وتجعله يعزم وينوي على أداء الفريضة في العام القادم . عندها تسعد و تؤجر .
اقرأ أيضا:
الامتحان الأصعب.. 3 أسئلة تحصل علمها في الدنيا لتجيب عنها في القبراقرأ أيضا:
فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة..لا تتنافس على الشر واكتشف سترك الحقيقي