في بعض الأوقات، ربما نجد أنفسنا بين الحلال والحرام تائهين، وبين الشهوة التي تسيطر علينا وضعف إيماننا، أمامها، في حالة من الحيرة، البحث عن سبل النجاة، خاصة إذا كان الوضع الحالي أشبه بالحالة الضبابية التي لا نرى فيها الطريق، ولا نعرف معالمه رغم وضوحها، ورغم ما حصن به ربنا سبحانه وتعالى عباده بأن أنزل لهم القرآن، وعرفهم الحلال والحرام، وكشف لهم ما ينفعهم وينجيهم، من خلال فطرتهم التي فطرهم عليها.
فكر قبل المعصية
ولم يقف الإسلام حَجَرَ عَثْرَة أمام حياة الإنسان ومتعته، وبقائه، ومصلحته، وعندما ننظر إلى الكون نرى كيف سخر لنا الله الشمس، والقمر، والنجوم، وكذلك الماء، والهواء، والنور، والجمادات، والنباتات، والحيوانات، والأرض، والسماء.
ومع هذه النعم، فالإنسان ورغم وضوح فضل خالقه عليه، ورغم وضوح المنهج الذي ارتضاه ربنا من أجلنا ومن أجل ما يحفظ بقاءنا، وما يعمر كوننا، لا يَعرف ربَّه بل يَجحد وُجودَه، ويُنكر آياته، ويُشرك معه غيره، رغم الفطرة السليمة التي فطره الله عليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما مِن مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تحسُّون فيها مِن جدعاء؟))، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].
والفطرة التي فطر الله عليها الإنسان هي الإسلام، الذي يعد المنهج الرباني الذي بين لنا فيه الحلال والحرام، وخاطب به العقل وقوةَ الفهم والتأمُّلَ والرأيَ، فالإنسان غير مقيَّد، فقد أوتي حريَّة الفكر والاختيار في الرأي والعمل؛ ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ولا يخلو أيُّ إنسان من أن يخلقه الله - تعالى - على الفطرة ويمنحه الاختيار؛ سواء كان الاختيار بين الإيمان والكفر " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، أو الاختيار بين الحلال والحرام " الحلال بين والحرام بين"، أو الاختيار بين الخير والشر.
وهذه هي الخِيَرة التي مكَّن الله العبد منها؛ ليختار طريقه وسَيْره في الحياة، فالخِيَرَة التي مُكِّن العبد منها يكون الناس فيها على مفتَرَق طُرق، بين إنسان أَعْمَل فكره وعقله، وعرف خالقة وآمن به ربًّا وسيِّدًا لنفسه، وعمل بطاعته وبمنهجه، فهذا هو المسلم الذي قد استسلم رغبةً وطواعيةً، وأصبح طائعًا لربه ومنقادًا لشرعه، وقضى ألا يعبد إلا الله، فهذا هو الذي استكمل إسلامه؛ لأن حياته أصبحت الإسلام بعينه، وأصبح صادقًا مع الله ومع نفسه ظاهرًا وباطنًا.
وعلى الجانب الأخر، هناك إنسان أخر، وُلِد مسلمًا وعاش الإسلام الكونيَّ، إلَّا أنَّه لم يشعر بإسلامه، ولم يُعمِل قوَّته العلمية والعقلية ليعرف مَن خلَقه ورزَقه وشقَّ سمعه وبصره، فأنكر وجوده، واستكبر عن عبادته، والتزم الحرام وحرض عليه، وقاطع الحلال واستهزأ به، وأبى أن يؤمن بآياته الدالَّة على وحدانيته، وهذا هو الكافر.
ومع تفريط الإنسان في استخدام حواسِّه وإعمالها في التفكير، وما أعطاه الربُّ مِن الاختيار وحرية الفكر لا يعفيه هذا مِن المطالبة بالنظر وتصحيح تصوُّراته وخواطره المُجَانِبَة للصواب، والتطلُّع إلى معرفة التصوُّر الصحيح عن الإله والكون.
بَيْدَ أن هناك طوائف تُعْفِي الإنسان مِن السعي والبحث للوصول إلى الحقيقة، وأنه ليس بوسعه أن يختار أسباب الهداية، ويتجنَّب أسباب الغَواية، وأنه قد قُضي من ذلك في اللوح المحفوظ، وهؤلاء قد أفرطوا في تحكيم عقولهم حتى ضلُّوا سواء السبيل، فمع أن إعمال العقل البشري مطلَبٌ لتسيير حياة صاحبه، إلا أن له حدودًا ليس بوسعه تجاوزها، إذ الإقدام على ذلك يَعْتَوِرُه كثيرٌ مِن الشبهات تحُول دون الوصول إلى معرفة الحق.
اقرأ أيضا:
الإيثار.. إحساس بالآخرين وعطاء بلا حدودكيف تختار؟
الاختيار دائما يأتي من خلال ما يعرفه العقل ويؤمن به الفؤاد، فإذا كان العقل عاجزٌ عن إدراك مصالحه ومضارِّه، فكيف إذا كان العبد قد غطَّى فطرته بالجهل والسَّفَهِ؟! فأنَّى له الاطلاع إلى ما حُظِر عنه عِلمه وقصر به فهمه مِن أن الله قد أعدَّه مِن الأشقياء؟! فإن هذا مخالف لما اتَّفقتْ عليه جميع الرسل، وتواطأتْ عليه جميع الكتب الإلهية، ولم تَقبَل به الفِطَرُ والعقولُ السليمةُ مِن أن الله له في قضائه وقَدَرِه العِلم بالأشياء قبْل وقوعها وكتابته لها ومشيئته بها وخلقه لها.
فالإنسان الذي لا يعرف مصلحته، ولا يعرف ماذا ينتظره يوم القيامة، ويصبح عقله قاصرا على الشهوة الفانية، حينما يبيع في مقابلها جنته يوم القيامة، فهو الإنسان الخاسر، والذين ييأسون من رحمة الله ويتساهلون المعصية بافتراضهم أنهم لطالما كانوا مِن أهل الشقاوة وأهل النار، فما هذا إلا تَنَصُّلًا مِن العمل وهروبًا من التكاليف، وتبريرًا للوقوع فيما حرَّم الله تعالى والتمادي في الضلال والكفر، وإلا فليجعلوا أنفسهم أنهم مِن أهل السعادة وأهل الجَنَّة، ويعلمون أنهم مُطالَبون بعمل أهل الجَنَّة فيعملون بعملهم، وعليهم أن يَعْرِضوا قولهم هذا على دعاء عمر - رضي الله عنه - حيث كان يقول في دعائه: "اللهم إن كنتَ كتبتني شقيًّا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتُثْبِت"، فالله تعالى فعَّال لما يريد لا حجر عليه.
قال ابن القيم : "وقد اقتضَت حكمة أحكَمِ الحاكمين أن أقام في هذا العالَم لكل حقٍّ جاحدًا، ولكل صواب معاندًا، كما أقام لكل نعمة حاسدًا، ولكل شرٍّ رائدًا، وهذا مِن تمام حِكمته الباهرة، وقدرته القاهرة؛ ليُتِمَّ عليهم كلمته، ويُنْفِذ فيهم مشيئته، ويُظْهِر فيهم حكمته، ويقضي بينهم بحكمه، ويُفَاضِل بينهم بعِلمه، قال - تعالى -: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 109]، "شفاء العليل" ص 217.
فكلَّما رجع الإنساان لفطرته السليمة، ودينه القويم، وتعاليم ربع، عرف الحق حقا والباطل باطلا، وتخير من بين الخير والشر ما يصلح به شأنه يوم القيامة، وينجي به نفسه من عذاب جهنم.