نحن من ثلاثة تراكيب مختلفة، نفس وجسد وروح، لكن الحياة المادية التي نعيشها تدفعنا إلى الشق المادي منا، ويأتي طقس الصيام لوزن هذا الميزان وإضافة ثقل إلى خلاف المادة، والصيام الإسلامي هو نوع من الصيام الكلي/الانقطاعي، والصيام الانقطاعي هو طقس تشترك فيه الديانات الإبراهيمية الثلاث.
في جامعة ستانفورد قام عدد من الباحثين بتجربة على مجموعة من الأطفال في ما عرف لاحقاً باختبار المارشميللو "حيث قاموا بترك كل طفل مع قطعة مارشميللو على أن الطفل الذي ينجح في الإبقاء على قطعة المارشميللو حتى مرور فترة من الوقت يحصل على واحدة أخرى، وإن أكلها فلا شيء عليه، ثم قاموا بمتابعة هؤلاء الأطفال خلال فترة المراهقة والشباب، وكانت النتائج أن الأطفال الذين استطاعوا [تأجيل اللذة] حققوا معدلات أعلى من النجاح على المستوى العلاقاتي والشخصي، وبالنسبة للصيام فإن الفرد يتدرّب من خلال تأجيل اللذة المباحة لثلثي اليوم ثم الحصول عليها بنهاية اليوم، مما يدربه على اختبار أشد وهو تأجيل اللذة المحرّمة طيلة عمره من أجل الحصول على الجنة.
اقرأ أيضا:
مختلفة مع زوجي حول ضرب أولادنا لتربيتهم.. ما الحل؟يدافع جاك لاكان بقوة عن التفرقة بين الدوافع والغرائز، حيث يرى أن الغريزة هي محرك الحيوان، والفارق بين الغريزة instinct والدافع Drive أن الغريزة مرتبطة ارتباطاً شرطياً بالمثير، فمتى شعر الحيوان بالجوع سيأكل أول ما يمكنه التهامه لأنه يتحرّك بغريزته، أما وجود المثير مع الاحتياج بالنسبة للإنسان فإنه يحرك الدافع للإشباع، والإنسان هو من يختار متى وكيف يستجيب لهذا الدافع لإشباعه. هنا يأتي رمضان ليدفع الفرد للتسامي فوق احتياجات الجسد بالكلية خلال فترة من شروق الشمس وحتى غروبها، فهو يشعر بالجوع والعطش، وربما يرغب في الاتصال بشريك حياته، لكن هذا لا يعني أنه منقاد خلف هذه الدوافع، بل هو لديه القدرة على قيادة دوافعه لا العكس وإشباعها بالقدر والحال المناسب.
الصيام تدريب على حياة جديدة
يشتكي الكثيرون من فقدان سلطتهم أمام بعض العادات، فتصبح العادة لديهم إدماناً، تتكرر من تلقاء نفسها دون أي تحكم من صاحبها فليس له تدخل في تعديلها أو الامتناع عنها، فيما يعرف بالاعتماد/الإدمان النفسي. وبشكلٍ ما يفقد الإنسان أهم ما يميزه وهو سلطان الاختيار الذي دُفِع من الله له. هنا يأتي رمضان بسلطانه الروحي ومشاركة المحيطين لكسر دائرة العادات، وإعادة تنظيم جدولك اليومي بشكل مختلف ليتركك في حالة خلخلة وقد منحك الاختيار للعودة لعاداتك السابقة أو بدء حياة جديدة.
لذلك يعلل الله حكمة الصوم بقوله ﷻ: ﴿لعلكم تتقون﴾ والتقوى هي حالة من النقاء الإنساني، فهو حالة يمكن وصفها بالملائكية، إذ يرتقي بالصيام فوق غرائز الجسد، ويهتم بشيء آخر خلاف المادة، ولذلك يحث النبي ﷺ على تحقيق معنى الترقّي بالإحسان إلى الناس، وهناك معنى آخر للصيام هو الأشهر بين الناس، وهو معنى المشاركة النفسية للفقراء؛ فالفقير المعدوم يمر على أنواع الطعام والشراب وهو لا يستطيع أن يمد يده إليها، فيأتي الصيام لتشترك الأمة بالكامل في هذا المعنى العظيم، ولذلك كان النبي ﷺ أجود ما يكون في رمضان.
الصيام تدريب على التسليم
في الصيام معنى آخر، هو الانقياد لإرادة الله فوق الإرادة الذاتية، وهو غاية التعبّد والتسليم لله، والتسليم هو معنى واسع الانتشار في بيئة التعافي، إذ إن (كل راحة تبدأ مع التسليم وبدون التسليم لا يحدث شيء)، هكذا يرى المدمنون المجهولون معنى التسليم، وللتسليم عدة معان، وما يعنينا هنا هو تسليم رغباتنا وشهواتنا وإرادتنا لإله محب عطوف يديرها لنا. وفي الصيام يجد المسلم أمامه المباحات الثلاثة وبتكبيرة واحدة يسلمها كلها لله فلا يقرب الطعام ولا الشراب ولا المثيرات، وهذا معنى قول الله ﷻ. (يدع [يترك/يسلم] شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) وهو تدريب على تسليم ما هو أصعب من ذلك، وهي العادات والسلوكيات الخاطئة ولذلك يقول النبي ﷺ، (من لم يدع -يترك/يسلم- قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) والجهل هنا بمعنى الجهالة أي سوء التعامل مع الناس.
لذلك كان رمضان منحة ربانية لا تتكرر سوى مرّة واحدة في العام، ولذلك كان النبي يقول: "لو تعلم أمتي ما في رمضان من الخير لتمنت أن السنة كلها رمضان" وكل عام وأنتم بخير.
د.شهاب الدين الهواري اختصاصي الطب النفسي
*بتصرف يسير
اقرأ أيضا:
4 أسباب تجعلنا نكرر تجاربنا المؤلمةاقرأ أيضا:
أميل عاطفيًا للفتيات من جنسي دون الشباب وأعلم أنه حرام.. فما الحل؟