أغلبنا حينما تمر أمامه سورة الفتح وخصوصًا هذه الآيات الكريمة: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)»، يتصور على الفور أنها تتحدث عن فتح مكة، وأن الله عز وجل منح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحًا مبينًا، بعد سنوات طويلة من التعب والجهد والمشاق، في سبيل نشر الدعوة الربانية.
إلا أن الحقيقة أن هذه الآيات الكريمات تعني (صلح الحديبية) وليس فتح مكة، إذ أنه في صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت : (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) - إلى قوله - (فوزًا عظيمًا) مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحر الهدي بالحديبية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعًا».
صلح الحديبية
أما صلح الحديبية، فهو عهد واتفاق، تم بين المسلمين وقريش في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة قرب موضع يقال له الحديبية قبيل مكة، ففي ذلك العام رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحًا شديدًا، فرؤيا الأنبياء حق، إلا أنه بعد استعد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة مسلم، متجهين إلى مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة، اعترضت قريش طريقهم.
فلما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية أرسل عثمان رضي الله عنه إلى قريش وقال له: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عُمارًا، وادعهم إلى الإسلام، وأَمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، فلما تأخر عثمان في العودة وأشيع أنه قُتل، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة، فتبادروا إليه، وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا، وهذه هي بيعة الرضوان التي نزل فيها قول الله تعالى: « لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » (الفتح:18).
اقرأ أيضا:
أمثال أصلها من القرآن.. اعرف حكايتهاالتفاوض بين النبي وقريش
جرت الأحداث سريعًا، وأرسلت قريش عروة بن مسعود للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «قد سهل لكم أمركم، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل»، فتكلم سهيل طويلاً ثم اتفقا على قواعد الصلح.
وأسفرت المفاوضات عن اتفاق سمي (صلح الحديبية)، يقضي بأن تكون هناك هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، وأن يرجع المسلمون إلى المدينة هذا العام فلا يقضوا العمرة إلا العام القادم، وأن يرد محمد صلى الله عليه وسلم من يأتي إليه من قريش مسلمًا دون علم أهله، وألا ترد قريش من يأتيها مرتدًا، وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، من غير قريش دخل فيه.