عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ))؛ رواه مسلم.
شهر رمضان هو شهر الخير، دل فيه الله سبحانه وتعالى على كل أعمال الخير التي تقرب من الجنة وتبعد عن النار، وتبدأ أعمال الخير في رمضان من أعظم ما تحتقره أعيننا رغم عظمته، وهو أن تلق أخاك بوجه طلق وتبتسم في وجه، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن تصلح بين متخاصمين صدقة.
وهذه أشياء كلها قد نستصغرها، ولا نعطيها حجمها الحقيقي، رغم أنها قد تكون سببا لدخول الجنة، فقد دخل رجل الجنة في كلب سقاه، بعدما صعد من البئر ووجد الكلب يلهث من العطش فشعر الرجل بما يشعر به الكلب وقد مر بنفس حالة العطش التي مر بها الرجل، فعلى الفور نزل البئر وملأ خفه ماءا وسقى الكلب فكتبت له الجنة.
فالخير يبدأ من الأشياء التي نستصغرها ونحتقرها، وينتهي بالأشياء الكبيرة من إعانة الفقراء والتصدق عليهم وإغاثة الملهوف، وغيرها من الاعمال الكبيرة التي ربما لا يقوم بها إلا الأغنياء وتحتاج لأموال كثيرة.
الخير يشمل كل شيء
فالخير في الإسلام يشمل كل شيء سواء كان الفعل صغيرا أو كبيرا، سواء كنت تتصدق بجنيه واحد أو تتصدق بمليون جنيه، فكل ما يدل على سعادة أصحاب الحاجات، حض الشرع الشريف على فعله، ورغب القرآن في الالتزام به، ووعد في جزاءه الجنة.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحقرن من المعروف شيئا" فربما يكون سؤالك البسيط على أحد المتواضعين من فقراء المسلمين يمثل سعادة وتقديرا بالغا له.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في رفع الهمم والمعنويات، بالجلوس والتقارب مع فقراء المسلمين.
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم عن التقليل من شأن المعروف، أيًّا كان مقداره؛ فإن الله تعالى يحب المعروف كله قليله وكثيره؛ فلذلك ينبغي للمسلم أن يحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه ولا يحتقر منه شيئًا، فلربما كانت نجاته في عمل يسير؛ فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)).
ومن بين المواقف التي تدل على ذلك، قصة أم مِحْجَن رضي الله عنها، وهي امرأة سوداء، لم يرد لها في السيرة النبوية تسمية سوى "أم محجن، أو محجنة"، كانت من ضعفة ومساكين أهل المدينة المنورة الذين ليس لها نسب تعتز به، ولا يُفْتَقدون إذا غابوا، وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى، قال ابن الأثير: " مِحْجَنَةُ امرأة سوداء، كانت تَقُمُّ المسجد، فتوفِّيَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال ابن حجر في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة": "مِحْجَنَةُ: وقيل أم مِحْجَن، امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، وقع ذكرها في الصّحيح بغير تسمية".
وللنبي صلى الله عليه وسلم مع أم محجن رضي الله عنها موقف سجلته كتب السيرة النبوية، ففي إحدى الليالي ماتت رضي الله عنها، فصلى عليها جمعٌ من الصحابة رضوان الله عليهم، ودفنوها ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرها، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، اهتماماً بها، وإكباراً وتعظيماً لشأنها وما كانت تفعله من تنظيفها للمسجد، فأخبره أصحابه بما كان منهم تجاهها، فقال صلى الله عليه وسلم: (دلوني على قبرها)، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه وصلَّى عليها.
اقرأ أيضا:
تنال بها المغفرة .. 10 سنن وأعمال مستحبة في ليلة الجمعة ويومهادلوني على قبرها
وقد روى مسلم في صحيحه هذا الموقف النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأة سوداء كانت تقم (تنظف) المسجد ـ أو شاباً ـ ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها ـ أو عنه ـ فقالوا: مات (ماتت) قال: أفلا كنتم آذنتموني (أعلمتموني)، قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها (أو أمرَه)، فقال: دُلُّوني على قبرها، فدَلُّوه، فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم) راه مسلم.
وفي رواية للنسائي وصححها الألباني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (اشتكت امرأة بالعوالي مسكينة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عنها, وقال: إن ماتت فلا تدفنوها حتى أصلى عليها, فتوفيت, فجاءوا بها إلى المدينة, بعد العتمة, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نام, فكرهوا أن يوقظوه, فصلوا عليها, ودفنوها ببقيع الغرقد, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا, فسألهم عنها, فقالوا: قد دفنت يا رسول الله, وقد جئناك, فوجدناك نائماً, فكرهنا أن نوقظك, قال: فانطلقوا، فانطلق يمشي, ومشوا معه, حتى أروه قبرها, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصفوا وراءه, فصلى عليها, وكبر أربعا).
وقال القاضى عياض: "وفى حديث السوداء هذا: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تفقد أحوال ضعفاء المسلمين، وما جُبِلَ عليه من التواضع والرأفة والرحمة بأمته".
ومن فوائد هذا الموقف النبوي، أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعظم الناس بحسب أعمالهم، وما قاموا به من طاعة الله وعبادته، وتفقده للغائب وسؤاله عنه سواء كان غنيا او فقيرا، فلا فرق بين هذا وذاك، ومعرفة سبب غِيابه، وتقديم يد العون له إذا كان في حاجة وشدة، وزيارته إن كان مريضاً، وهو خُلُقٌ نبوي كريم، فمن شمائله وصفاته صلى الله عليه وسلم التي عُرِف بها أنَّه: (يَتفَقَّد أصحابَه، ويسأل الناسَ عمَّا في الناس) رواه الطبراني، فمع عظيم انشِغاله ومسئولياته فإن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم السؤال عمَّن غاب، وهذا كثيرٌ في سيرته المشرفة، فعن أنس بن مالك رضِي الله عنه: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه..) رواه البخاري، وعن عبد الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَعهَّد الأنصار ويَعُودُهم ويَسأل عنهم) رواه الحاكم وحسنه الألباني، ومن ذلك تَفَقُّده صلَّى الله عليه وسلم لأم محجن رضي الله عنها.
كما لم يكن أم محجن أن تُعْرَف ويُذْكَر اسمها في السيرة النبوية ويعرفه المسلمون إلا لعملها الذي كانت تقوم به، والذي قد يبدو حقيراً في أعين بعض الناس، ومن ثم ففي هذا الموقف النبوي معها عنها رسالةٌ إلى كلِّ مسلم: ألاَّ يحتَقِر من العمل شيئاً، فرُبَّ عملٍ صالح صغَّرَتْه الأعين، كان سبباً لرضا الرحمن، والفوز بالجنان، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحتقر من المعروف شيئا) رواه مسلم، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عُرِضَت عليَّ أعمال أمتي حَسَنُها وسيئُها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق) رواه مسلم.
لقد كانت أم محجن رضي الله عنها امرأة ضعيفة مسكينة، تنظف المسجد، وتلتقط منه الأذى، ومع ذلك سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبِرَ بموتها ودفنها، قال لأصحابه الذين قاموا بدفنها: (دلّوني على قبرها)، ولم يقف الموقف النبوي عند حدود السؤال، بل قام صلوات الله وسلامه عليه بالذهاب إلى قبرها، وصلّى عليها مع بعض أصحابه، مع استغفاره ودعائه لها، لتحظى في قبرها بالنور الذي يزيل عنها ظلمة القبر ووحشته، فصلاته ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لها سكن ورحمة، ونور وضياء.