{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]
يقول العلامة الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي:
معنى { سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا } [الصافات: 171] يعني: قلناها قبل الكون كله، وهذه الكلمة لها مترادفات: سبقت كلمتنا ووقعتْ وحقَّتْ، سبقتْ أي: لتحديدها قبل الحدوث، ووقعتْ ساعة الحدوث وحقَّت أي: هي حَقٌّ أنْ أقضي بقدرتي، وحَقٌّ أنْ تقع على مَنْ أريد. إذن: فهي معَانٍ ملتقية معاً ومتكاملة.
فما هي هذه الكلمة التي سبقتْ من الله لعباده المرسلين؟ هي قوله: { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 172-173]
هاتان قضيتان: الرسل لا محالة منصورون، والجند لا محالة غالبون، هذه كلمة سبقتْ من الله وقضاءٌ لا يُرَدّ، لذلك أخذ العلماء وأهل المعرفة من هذه الآيات أن الجندية شروطاً، مَنِ استوفاها استحقَّ الغلبةَ، ومَنْ أخلَّ بها استحق الهزيمة.
لماذا انتصر المسلمون في بدر وهزموا في أحد؟
فحين ننظر في نتيجة معركة بين مسلمين وكافرين، فإنِ انتصر المسلمون فاعلم أنهم حققوا شروط الجندية لله، وإنْ هُزِموا فعليهم أنْ ينظروا في أنفسهم ويبحثوا عن أسباب الخلل، ووجه المخالفة لقانون الجندية؛ لأنهم لو ظلُّوا على جنديتهم لله لَتحقَّق لهم وَعْدُ الله بالغلبة.
وهذه المسألة واضحة في معركة بدر وفي أُحُد، ففي بدر انتصر المسلمون؛ لأنهم لم يخالفوا قانون الجندية لله تعالى، لكن في أُحُد لم ينتصروا مع أن رسولَ الله بينهم، ولا تتعجب لذلك فهذا أمر طبيعي، ألم يخالفوا أمر رسول الله؟ بلى خالفوا، فكيف لو انتصروا مع هذه المخالفة؟ والله لو نصرهم اللهُ لَهانَ عليهم أمر رسول الله بعد ذلك، ولَقالُوا: خالفناه في يوم كذا وانتصرنا، إذن: النتيجة يوم أُحُد انهزم المسلمون المتخاذلون، لكن انتصر الإسلام وعَلَتْ قوانينه ومبادئه.
أما الرسل فهم واثقون من وَعْد الله لهم بالنصر، وهذه مسألة عندهم لا تُناقَش، والدليل على ذلك من قصة سيدنا موسى - عليه السلام -، فلما خرج من مصر ببني إسرائيل فأتبعه فرعون وجنوده، حتى كاد أنْ يدركه عند شاطئ البحر، وحتى قال قوم موسى{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء: 61].
فبماذا رَدَّ سيدنا موسى؟ (قال كلا) هكذا بملء فيه يُكذِّب واقعاً يمكن أن يحدث بعد لحظة واحدة، فالبحر من أمامهم والعدو من خلفهم، لكنه يقول{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
هذه هي الثقة في كلمة { إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 172] أي: الرسل.
أعرض عن الباطل
قوله تعالى: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [الصافات: 174]أي: اتركهم الآن في باطلهم وأعرض عنهم، لماذا والحق سبحانه قادر على نُصْرة دينه من أوله لحظة؟ قالوا: الحق سبحانه يريد أنْ يستشري الباطل، وأنْ يعلو حتى يعضّ الناس فيكرهونه ويضيقون به.
وأيضاً ليتدرب أهل الحق على المحن والشدائد ويَقْوَى عودهم { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [الصافات: 175] يعني: انظر إلى حالهم وعاقبة أمرهم، وسوف يبصرون هم هذه العاقبة، وما يحلُّ بهم من العذاب الذي يستعجلونه { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [الصافات: 176].
كما قال تعالى في موضع آخر:{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ }[الأحقاف: 22]وهذا غباء منهم، لأن هذا العذاب الذي يُكذِّبون به ويستعبدونه واقع لا محالة { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [الصافات: 177] والساحة في المكان الواسع أو الفناء الذي يجد الناسُ فيه مُتَنَفساً ومَنْفذاً يُروِّح عنهم، و { نَزَلَ } [الصافات: 177] يعني: حَلَّ ووقع وفاجأهم.
{ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [الصافات: 177] يعني: قَبُحَ هذا الصباح، وبئس هذا الصباح، والصبح هو الميعاد الحق للمعركة لمفاجأة المحارب قبل أنْ يستعد، أو يفاجئهم العذاب في وضح النهار فلا يستطيعون أنْ يستتروا من الفضيحة، و { ٱلْمُنْذَرِينَ } [الصافات: 177] القوم الذين أنذرناهم وحذرناهم.