يعد شهر رمضان فرصة عظيمة لزيادة حرث الإنسان في الأخرة، بعد أن نفذ الزاد في الدنيا، مع كثرة المعاصي وانتشار اللهو، وانشغال الناس بأرزاقهم.
وأول يوم من هذا الشهر الكريم هو بداية موسم من مواسم الأعمال الصالحة، وزمن حرث لمن أراد الدار الآخرة، وكان التجار ولا يزالون يهتبلون المواسم لتنمية أموالهم، وزيادة أرباحهم، وتوسيع تجاراتهم، لكن التجارة مع الله تعالى ليست كالتجارة مع غيره؛ إذ هي تعامل مع الكريم القادر الغني الوهاب ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾.
يقول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) سورة الشورى 20.
تدل الآية الكريمة مع قدوم شهر رمضان، على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة، بل لا بد من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاقّ في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية. فلما سمّى الله كلا القسمين حرثًا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاقّ، وهو ما يحصله الإنسان المسلم في شهر رمضان، من اجتهاد ومشقة وصيام وجوع وقراة قرآن واعتكاف، وصرف النظر عن الشهوات، حتى تحصل الخيرية في النهاية، ويأتي الثمر.
ويوضح لنا الله سبحانه وتعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال، وأن مصير الدنيا إلى النقصان ثم الفناء، فكأنه قيل، لذلك لا بد من تحمل متاعب الحراثة والتنمية والحصاد.
وفي هذا يقول الإمام الرازي إن الآخرة نسيئة والدنيا نقد، فالأخرة إن كانت نسيئة إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام، فكانت أفضل وأكمل، والدنيا وإن كانت نقدًا إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان، فكانت أخسّ وأرذل، فهذا يدلّ على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا ألبتة، وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم، كما هو مرويّ عن ابن عباس.
اظهار أخبار متعلقة
وفي ذلك يقول الله تعالى: (بل تحبّون العاجلة وتذَرون الآخرة) القيامة 20-21. ويقول (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرةُ خيرٌ وأبقى) الأعلى 16-17. فالرجل المؤمن الرشيد يؤثر الآخرة، لأنها خير في الكم والنوع، وأبقى في الزمن.
لذلك إن الله تعالى جعل للدنيا حرثا وزرعا، وجعل للآخرة حرثا وغرسا؛ فمن حرث للدنيا أوتي منها ما كتب له، ولكنه يخسر الآخرة، ومن حرث للآخرة فاز بالآخرة ولم يفته ما قدر له من الدنيا، بل تأتيه دنياه وهي راغمة.
ومن حسنة حرث الآخرة أنه حرث مضاعف مبارك، ويبقى أثره ونفعه لصاحبه؛ لأنه تعامل مع الله تعالى، بخلاف حرث الدنيا فإنه غير مبارك ولا مضاعف ولا يبقى لصاحبه؛ فهو زائل عنه بالموت، والدنيا بأسرها زائلة بالآخرة ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ ﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾.
وجعل الله زيادة حرث الآخرة ومباركته ومضاعفته ثابت بالقرآن الكريم ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾ وفي آية أخرى ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾.
ومن فوائد إرادة حرث الآخرة أن الله تعالى يوفق صاحبه للازدياد منه، والتلذذ به، فكلما عمل عملا صالحا قاده إلى غيره، وهذا معنى من معاني الزيادة في قوله سبحانه ﴿ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ﴾.
حرث الاخرة
وفي شهر رمضان الكريم فرصة لزيادة الحرث في الاخرة، وعبر القرآن بتعبير "الحرث"؛ لأن الحارث يتعب في حرثه وزرعه وغرسه لما يرجو من غلته وثمرته، ولما كان حرث الأرض أصلا من أصول المكاسب استعير لكل متكسب، ومنه قول ابن عمر رضي الله عنهما: (أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
وبقدر صواب حرثه في أرضه، وزرعه في وقته، وجده في عمله تؤتيه الأرض أكلها، وقد يجتهد ويتعب في حرثه وزرعه ولا تنتج أرضه؛ وذلك كمن زرع الزرع في غير أوانه، أو بذر البذر في غير مكانه، وهذا كمن دان بغير الإسلام، أو خالف السنة في عمله.
وضرب العلماء مثالا بأحبار اليهود ورهبان النصارى، وسدنة المعابد الوثنية، الذين يوقفون حياتهم كلها على معبوداتهم، وينقطعون لها في معابدهم، ولكن ليس لهم من عبادتهم نصيب، لأنها عبودية صرفت لغير من يستحقها، وذلك كمن حرث في غير أرض الزرع فليس له من حرثه زرع ولا ثمر مهما تعب، قال الله تعالى فيهم ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ وفي آية أخرى ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ .
اقرأ أيضا:
الإيثار.. إحساس بالآخرين وعطاء بلا حدودحتى لا تهدر صيامك
وفي المثال حجة قوية على الذين يصومون شهر رمضان ويصلون، ولكنهم يضيعون عبادتهم وصومهم بأكل حقوق الناس، والنظر على الشهوات، والإنفاق من حرام، وهو ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما من أراد حرث الدنيا فإن الله تعالى لا يعطيه منها إلا ما قُدِّر له ﴿ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ فأخبر سبحانه أنه مبخوس الحظ في الآخرة، ليس له فيها أي نصيب. وجاء هذا المعنى في قول الله تعالى ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ وفي آية أخرى ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ وَجَمَعَ له شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له) رواه الترمذي وابن ماجه.
لذلك جاء شهر رمضان لنعمل في حرث الآخرة حتى يكون لنا فيها نصيب، ولنحذر من إرادة حرث الدنيا فنحرم ثواب الآخرة، ولن ننال من الدنيا إلا ما قدر لنا ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾.