يستقبل المسلمون شهر رمضان بالإقبال على شراء المزيد من الطعام والشراب والمواد التموينية، التي ربما تكفي لشهور عدة، حتى أصبح الإسراف عادة عند الكثير من الناس في هذا الشهر الكريم، وليس للاستزادة من الخير والحسنات، وفضائل الأعمال التي ترفع الدرجات، وتمحو السيئات.
تخلَّ عن الإسراف في رمضان
أنزل الله شهر رمضان كفرصة إلهية ليعتق الناس ويجود عليهم ويرحمهم، والله يرحم من عباده الرُّحماء، فمن رحم الناس وجاد عليهم فالله يجود عليه ويرحمه.
لذلك إنّ الجمع بين الصدقة والصيام من أسباب دخول أعلى الجنّة، كما قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ في الجنّة غرفاً يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها»، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى بالليل والناس نيام».
فلعلّ هذه الخصال تجتمع كلّها في رمضان، إذا أطعم الصائم الطعام في رمضان فهو له صدقة، وهو أيضاً شُكر لنِعمة الله - تبارك وتعالى - وهو إيثار بما لديه من مال وتذكر للفقراء والمساكين، فتكون هذه الصدقة محقّقة لفوائد كثيرة من فوائد الصيام وحكمه. الجمع بين الصيام والصدقة من الدلائل الواضحة على الإيمان.
فالمرء قد يصوم لكنّه لا يتصدّق، بل إنه يستزيد من الأمور المادية والإسراف في الطعام والشراب والسهر على المقاهي، إذ المرء مفطور على الشح والاستئثار بما يملك، فلو أخرج وأنفق كان ذلك دليلاً على إرادته للتقرّب من الله عزّ وجلّ وعلى تخلصه من الشح الملازم لأكثر الناس.
والتعوّد على الصدقة في رمضان سبيل لاعتيادها بعد ذلك في أشهر العام كلّها، فيصبح المتصدِّق وقد أصبحت الصدقة سجية له وطبعاً، وهذا من أعظم أهداف الإسلام ومقاصده.
وعند الانتقال من الكتاب إلى السنّة المطهرة نجد النبي صلى الله عليه وسلم يفيض في اتّساع مفاهيم الصدقة في جوانب المعروف والإحسان الإنساني غير المادّي، كما أفاض في بيان أهميّة الصدقة المادّية وأثرها التعبدي والاجتماعي، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الصدقة تدفع البلاء، وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد أبرم إبراماً، ولا يذهب بالأدواء إلّا الدُّعاء والصدقة».
ويقول الله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (الواقعة: 10-11).
فأقصى ما يمكن أن يطمح إليه الإنسان المؤمن في هذه الدُّنيا، هو أن يكون القريب من الله، لا قُرب المكان، لأنّ الله لا يحويه مكان ولا زمان، ولكن قرب العمل والعبودية والمحبّة له سبحانه وتعالى.
اقرأ أيضا:
المجاهرون بالمعصية والفطر في رمضان .. هذا عقابهم في الدنيا والآخرةحب لا كراهية
قال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ" [سورة الحجر: 45-50]
الكثير من الناس يستقبل رمضان بقطيعة الأرحام والحقد للأقارب وربما يصل الحقد والكره للأخوة والوالدين.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جلوسًا مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، فطلع رجل من الأنصار، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق نَعْلَيه في يده الشِّمال، فلمَّا كان الغد، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرَّجل مثل المرَّة الأولى، فلمَّا كان اليوم الثَّالث، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرَّجل على مثل حاله الأولى، فلمَّا قام النَّبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إنِّي لَاحَيْت أبي فأقسمت ألَّا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تُـؤْوِيَني إليك حتَّى تمضي، فَعلتَ. فقال: نعم. قال أنس: وكان عبد الله يحدِّث أنَّه بات معه تلك الليالي الثَّلاث، فلم يره يقوم من اللَّيل شيئًا، غير أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه، ذَكَر الله عزَّ وجلَّ وكبَّر حتَّى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أنِّي لم أسمعه يقول إلَّا خيرًا. فلمَّا مضت الثَّلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إنِّي لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هَجْرٌ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مِرَار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة، فطلعت أنت الثَّلاث مِرَار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق)).
روى ابن جرير عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: طلع علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال: «« لا أراكم تضحكون؟ »» ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع علينا القهقرى فقال: «« إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن اللّه يقول: لم تقنط عبادي؟ { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} »» وقال قتادة: بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «« لو يعلم العبد قدر عفو اللّه لما تورع من حرام، ولو يعلم العبد قدر عذاب اللّه لبخع نفسه »».