مازال المسلم في حالة من التخبط أثناء حكمه على غيره من الناس بحسن أشكالهم وتسامح ألسنتهم والتدقيق في عبادتهم وإطالة السجود في صلواتهم، حتى يكون فخًا لهم من أجل ائتمانهم على أموالهم ونسائهم، ثم يتفاجئون منهم بالفجر في الخصومة والغدر في الاختلاف، والخيانة في المعاملة.
هم العدو فاحذرهم
يقول الله تعالى في سورة المنافقون: " ۞ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)".
فالحكم على الناس له معايير أخرى، غير التي يظهر بها أمامك صاحبك، فكما دل النبي صلى الله عليه وسلم على أن الدين هو المعاملة، فليس هناك ما ينص على أن شكل الإنسان أو عبادته وطول السجود أمامك هو المعيار الذي به تسلم له أموالك وتترك له نساءك، فبعض الناس لمجرد أن يعجب بشكل وعبادة غيره من الناس، ربما يعطيه ماله ويترك له زوجته، ظنا منه أنه لن ينظر إليها، ثم يفاجأ بالكارثة في ماله وعرضه.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما حدث به صالح بن محمد، قال: حدثنا القاسم العمري، عن عاصم بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه: أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر رضي الله عنه، فقال: صحبته في سفر؟ فقال: لا، قال: فأتمنته على شيء؟ قال: لا، قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد.
فلا يلومن الإنسان إلا نفسه، حينما يأتمن غيره على ماله ثم يغدر به، ولا يلومن إلا نفسه حينما يدخل أصحابه ليسهروا عنده حتى منتصف الليل في بيته، ويجعل من زوجته خادمة لهم وللهوهم، ولا يلومن إلا نفسه حينما يتفاجأ بغيره وهو يختلس النظر إلى زوجته أو ربما يعرض عليها نفسه، فأنت من أدخلت النار إلى بيتك، وأنت من جعلت مالك وعرضك مشاعا لغيرك، لمجرد أنه أعجبك شكله وأسعدك كلامه وحديثه.
فتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تدل على معاملة الناس بالحسنى، والعدل والإنصاف، والبعد عن الظلم والبغي والاعتداء، ولكنها أيضا تأمر بالحزم والأمانة والوفاء بالعهود وعدم اختراق بيوت الناس وخصوصياتهم وأموالهم، فقلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فقد يمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا .
فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذَا وعَدَ أخْلَف، وإذا اؤتمِنَ خَان) رواه البخاري ومسلم.
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبالفجور في الخصومة
فالفجور في الخصومة هو ثلث المعاملات؛ لأن القول يقابله الكذب والفجور في الخصومة، والنية يقابلها إخلاف الوعد، والعمل يقابله خيانة الأمانة، والفاجر في الخصومة يعلم أن الحق ليس معه فيجادل بالباطل؛ فيقع فيما نهى عنه الله جل وعلا- بقوله: ولاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
والفاجر في الخصومة يسبق لسانه عقله وطيشه حلمه وظلمه عدله، لسانه بذيء وقلبه دنيء، يتلذذ بالتهم والتطاول.
فقبل أن تقع فريسة في شركه يلهب مشاعرك بطيب القول، وحينما يحصل منك على ما يريد تراه مثل الذئب االذي ينهش في لحمك وينكر عليك حقك.
فالفاجر في الخصومة الخائن للأمانة ليس لديه حدٌّ ولا ضابط فيها، غايته تبرر وسيلته؛ سواء أكان هذا الفاجر في الخصومة في باب الحقوق أو العقائد أو الأخلاق، وقد ذكر بعض السلف أن من أكثر في المخاصمة وقع في الكذب كثيراً؛ ولأجل هذا؛ قال عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله تعالى-: (مَنْ جعلَ دينَهُ عُرضةً للخُصومات أسْرعَ التَّنقُّل)؛ أيّ لم يستقر على منهج معيّن ولا مبدأ واضح.
لذلك فإن اللبيب العاقل ليس هو الذي يميز بين الخير والشر في الخصومة فحسب؛ لأن كثيراً من الناس يملك هذا التمييز، ولكن اللبيب حقاً هو من يميز في مثل هذه الأمور خيرَ الخيرين وشر الشرين.
، وما سقط من سقط في الخصومات الدينية والدنيوية العقدية والفكرية الثقافية والإعلامية إلا بسبب الجهل بهذا الأمر العظيم، ولقد أحسن من قال:
وللفجور في الخصومة صور متقاربة منها: الكذب على الخصم، وادعاء ما ليس له، وإنكار الذي عليه، واستعمال الأيمان الكاذبة، وإظهار الباطل في صورة الحق بقوة حجته وفصاحتها، وشتم الخصم ورميه بالأوصاف القبيحة، والكبر وعدم الانقياد للحق.