نهى الله عز وجل عن مدح النفس وتزكيتها والثناء عليها، بالكبر على معصية الغير، فمن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر، وقال تعالى: "فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ" [النجم: 32]، فاستعظام العمل هو العُجب.
إلا أن بعض الناس يسارع إلى الشر في توجيه اللعن والسباب لبعض المقصرين مع الله أو المبتلين بأحد المعاصي التي يجاهد نفسه على أن يتوب عنها، ولكن قد يأخذ وقتًا حتى يتوب الله عليه.
إلا أن البعض يأخذه بهذا الذنب فيبادر دائمًا بسبه، ويأخذ من معصيته ذريعة لتوجيه اللعان له، وفضح أمره، بين العامة من الناس.
ويتناسى هؤلاء أنه في الأمس القريب كانوا مبتلين في معاصي مشابهة، حتى تاب الله عليهم، فكم منا كان مقصرا في حق الله وفي حق أسرته ونفسه، وكم منا معصوم من الخطأ، حتى يعاتب غيره عليه ويجعل منه سبيلا للنيل من أعراض الناس.
وحذرنا الله تعالى من الغرور والعجب، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ" [المدثر: 6]. قال الحسن البصري: (لا تمنن بعملك على ربـك تسـتـكثره)، فإنه مهما كُثرَ العمل ففضل الله أعظم، وحقه أكبر.
فربما تمر على بعض المبتلين بالمعاصي وأنت تذهب لصلاة الفجر، وتجد من يجلس على المقهى ويسمع النداء ولكنه يتجاهله ويضع الشيشة في فمه، ويقوم بلعب "الكوتشينة" أو "النرد" فتوجه لهم وأنت ذاهب إلى صلاة الفجر اللعنات بدلا من أن تدعو لهم بالهداية، متغافلا عن الذنوب التي من الممكن أن تقترفها، كما تتغافل أنه لا يوجد أحد معصوم من الخطأ إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم التي تحلّى بها خُلُق الرحمة والرأفة بالغير، وشملت رحمته الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فإن الذي زلَّ ووقع في المعصية بحاجة خاصة أن نأخذ بيده لا أن نتركه يقع على الأرض، أو نهيل عليه التراب، أو ندعو عليه باللعنة فنكون عوناً للشيطان عليه، بل وربما ترتد هذه اللعنة وتعود على منْ لَعَن، إن لم يكن الملعون مستحقاً لهذا اللعن.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتُغلق أبوابُها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود.
ويقول العلماء إن اللعن طرد عن رحمة اللّه، فمن طرد ما هو أهل لرحمته عن رحمته فهو بالطرد والإبعاد عنها أحق وأجْدر، ومحصول الحديث التحذير من لعن من لا يستوجب اللعنة والوعيد عليه بأن يرجع اللعن إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ}(آل عمران:13)".
والسيرة النبوية فيها من المواقف الكثير التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم فيها عن لعْنِ أحَد، وإن كان هذا الملعون عاصياً، ومن هذه المواقف موقفه مع النعيمان بن عمرو رضي الله عنه الذي كان مشهوراً بالمزاح خاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عنه ابن سعد في الطبقات: "شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع النعيمان حاسما في نهي الصحابة عن لعْنِه رغم شربه للخمر وإقامة الحدِّ عليه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رجلاً على عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّبُ حِمَاراً، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قدْ جلدَه في الشَّراب (الخمر)، فأُتيَ به يوماً فأمَرَ بِهِ فجُلِدَ، فقال رجلٌ مِن القوم: اللَّهُمَّ العَنْه، ما أكثر ما يُؤتَى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَلْعَنُوه، فوالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنه يُحِبُّ اللهَ ورسولَه) روه البخاري. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لمن لعَنَه: (لا تلعنْه فإنه يحبُّ اللهَ ورسولَه).
والنبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناساً من المشركين من أهل الجاهلية بقوله: (اللهم العن فلاناً، وفلاناً، وفلاناً)، نُهِيَ عن ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}(آل عمران: 128)، فالمُعَيَّن ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة، ثم تاب، فتاب الله عليه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أُتيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بسَكران، فأمر بضَربه، فمِنَّا مَن يضربه بيده، ومنَّا مَن يضربه بنعله، ومنَّا مَن يضربه بثوبه، فلمَّا انصرف، قال رجلٌ: ما له؟! أخزاه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عونَ الشَّيطان على أخيكم) رواه البخاري.
وفي رواية لأبي داود وصححها الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (.. ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه).
ويُستفاد من ذلك منع الدُّعاء على العاصي بالإبعاد عن رحمة الله، كاللعن، وفيه الرَّد على مَن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثُبُوت النَّهي عن لعنه، والأمر بالدُّعاء له، وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النَّهي، وثُبُوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكِب، لأنه صلى الله عليه وسلم أخْبَرَ بأن المذكور يحب اللهَ ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأنَّ مَن تَكَرَّرتْ منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدَّم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يُراد به زواله بالكلية، بل نفي كماله.
وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة من اللعن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطّعّان، ولا اللّعّان، ولا الفاحش، ولا البذيء) رواه الترمذي.
ويطلب النبي الرفق بالناس، حيث يقول صلى الله عليه وسلم حين قال عن نفسه وبعثته ودعوته: (إني لم أبعث لعَّاناً، وإنما بُعِثْتُ رحمة) رواه مسلم .
و نشير إلى أن هناك ثلاثة قوانين للتوبة والرجوع إلى الله وهي:
1- أن العاصي- مهما بلغت معاصيه- يجب عليه ألا ييأس أو يقنط من رحمة الله.
2- أن الطائع – مهما بلغت طاعاته- يجب عليه ألا يغتر بتوبته، وألا يأمن مكر الله.
3- هناك فارق بين خطيئة السر الغير متعدية وبين خطيئة العلم المتعدية للغير في الضرر والإفساد .
اقرأ أيضا:
الكسل داء يبدد الأعمار والطاقات.. انظر كيف عالجه الإسلام