في بعض الأوقات تكتشف أن أهل المعصية لا يكون هناك من هو أسعد منهم حينما تجادلهم عن أفعالهم ومدى حرمتها، وتوجه لهم النصح والعظة، رغم حرصك على مصلحتهم ومدى خوفك عليهم، إلا أنهم قد لا يتوقفون عن حد ارتكاب المعصية، بل يهدفون من ورائها إلى نشرها والدعوة إليها والجهر بها، بل والفخر فيها، ويحاولون بشتى الطرق استفزاز المعادين لمعصيتهم لجدالهم عنها، من أجل تحقيق بعض الشهرة، بل وانتهاز الفرصة للهجوم على أهل الفطرة السليمة والعمل على عزلتهم وتكميم أفواههم.
فخ شيطاني
وهذا السلوك هو فخ شيطاني قام به قوم لوط مع نبي الله لوط ومن آمن معه من الرافضين لنشر اللواط والفاحشة التي انتشرت في عهد لوط، فبدأوا يستفزون المؤمنين ويجادلونهم، بل ونصبوا فخا شيطانيا لعزلة المؤمنين وطردهم من القرية، قال تعالى في سورة النمل: " "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" .
فأهل المعصية ومن يسعى لنشرها، يبادرون بحصار المؤمنين، وتشديد الخناق عليهم، ويبدأ هذا حينما ينجحوا في تحقيق حالة من النقاش المجتمعي حول معصيتهم وفواحشهم، لكي يهدموا قدسية الحلال والحرام، وتزيين هذا الحرام للناس.
لذلك نص القرآن في مواجهة هذه الفخاخ الشيطانية، حينما يتبين لنا مآرب أهل المعصية من سعادتهم بهذا الجدال عنها، وانتهاز فرصة هذا النقاش المجتمعي في انتشار باطلهم، وفاحشتهم، أن تعتزلهم فورا، لنفوت عليهم فرصة هذه الحالة المزيفة التي يريدون صنعها بالباطل، وهو ربما يكون إجراءا نلجأ إليه حال تبين لنا صحة ما يخطط له أهل المعصية.
وقد عمل بهذا الإجراء إبراهيم عليه السلام، وهو المقاطعة، قال تعالى في سورة مريم (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قال الواحدي في تفسيره الوجيز: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ ﴾ أفارقكم وأفارق ما تعبدون من أصنامكم ﴿ وَأَدْعُو رَبِّي ﴾ أعبده ﴿ عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ بعبادته ﴿ شَقِيًّا ﴾ كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام؛ يريد: إنه يتقبل عبادتي ويُثيبني عليها.
فإن كان المقصود باعتزال الوالدين اجتناب ما هم فيه من باطل ومعصية فهذا أمر واجب، قال سبحانه: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{ الأنعام:68}.
وقال تعالى: "وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا"{النساء:140}.
فما وقع من إبراهيم عليه السلام هو أنه أولا ترك ما عليه قومه من الباطل والتزم الحق، ولذلك قال فيما حكى الله عنه: "وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا "{مريم:48}.
فالنأيُ عن مجالَسَة العصاة ومفارقتهم ومجانبة ساحتهم واعتزال أماكنهم والانكفاف عن صحبتهم واجتناب السفر معهم دليل صحة النظرِ ونورِ البصيرةِ
يقول الشاعر:
إِنَّ السَّلَامَةَ مِنْ لَيْلَى وَجَارَتِهَا *** أَلَّا تَمُرَّ بِوَادٍ مِنْ بَوَادِيهَا
فحين تجد أن جلوسك ومناقشتك لأهل الباطل تجعله يتمادى في باطله ويفجر بمعصيته، إذا عليك أن تعتزله، ومن جلس مجلسَ قوم وفيه معصية أو بدعة وجَب عليه أن يُنكر عليهم بالحكمة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، فإن قَدَرَ أن يُنكر ولم ينكر كان شريكا في الوِزْر، وإن عجز عن الإنكار عليهم وجب عليه أن يفارق مجلسهم؛ لأن المجالسة والمداخلة تُوجبان الألفةَ والمتابعةَ.
فقد رُفِعَ لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائما، فقال: "ابدؤوا به، أما سمعتم اللهَ يقول: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النِّسَاءِ: 140]"، فبيَّن عمرُ بن عبدِ العزيزِ -رضي الله عنه- أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: "إذا دُعِيَ إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها؛ وذلك أن الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر باختياره ولم ينكر فقد عصى الله ورسوله بترك ما أمره.
فمن مكر أهل المعصية ونشر الفجور أنهم ينصبون الفخاخ لإحداث حالة من التأييد لأفكارهم عن طريق طرح هذه الأفكار السيئة للنقاش، وجعلها كمينا يصطادون فيه الناس للمشاركة في معصيتهم ، أو الترويج لها، ومن ثم وجب على الناس اعتزالهم حتى لا يكون اشتراكهم كثرة لسوادَ أهل البدع والباطل والمعصية، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثرون سوادَ المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي السهمُ فيُرمى فيصيب أحدَهم فيقتله، أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)[النَّحْلِ: 28]، (أخرجه البخاري).