حينما تسمع قوله تعالى "ورحمتي وسعت كل شيء" (الأعراف)، تشعر بالسكينة والطمأنينة، فقد وسعت رحمته كل شيء يخطر ببال أحدنا، سواء كان في الدنيا أو الآخرة.
فالله عز وجل برحمته لم يرض لعباده أن يعذبهم، ولكن الناس هم من يظلمون أنفسهم، فكم من المواقف اليومية التي نستشعر فيها رحمة الله عز وجل سواء كانت في الخير، أو ما نظن فيه الشر لنا، ونستبين بعد ذلك انه الخير والرحمة، فالرحمة تدخل تفاصيل أدق الأمور، أدركناها أم لم ندركها، وشعرنا بها أم لم نشعر، حتى لو بدت في الظاهر أنها صعبة قاسية، فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.
رحمة الله بعباده
رحمة الله واسعة، وفضله عظيم، وقد جاءت هذه الجملة (ورحمتي وسعت كل شيء) في سياق الحديث عن اليهود، في سورة الأعراف، حيث ذكر الله تعالى على لسان موسى عليه السلام بعد أن غضب من قومه حين عبدوا العجل، وغضب من أخيه هارون لمَ لمْ ينهاهم عن ذلك، وألقى الألواح التي أوحيت إليه، وبعد أن كانت الرجفة التي هلك على أثرها سبعون رجلاً، فتوجه موسى عليه السلام بالدعاء: “۞ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).
وقد أخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما روي عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين؛ أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول: مذنب، فجعل يقول: أقصر أقصر عمَّا أنت فيه، قال: فيقول: خلِّني وربي، قال: حتى وجده يومًا على ذنبٍ استعظمه، فقال: أقصر، فقال: خلِّني وربي، أبُعِثتَ علينا رقيبًا؟! فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنة أبدًا، قال: فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي، فقال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار))، قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلَّم بكلمة أوَبْقَت دنياه وآخرته؛ أبو داود وأحمد وصحَّحه الألباني.
وعن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله - تعالى - قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك))؛ هذا حديث متفق عليه.
فرحمة الله واسعة يصيب بها من يشاء من عباده بشرط أن يحسن العبد ظنه في الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لما قضى الله الخلق كتب كتابًا، فهو عنده فوق عرشه، إن رحمتي سبقت غضبي))؛ هذا حديث متفق عليه.
وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : ((جعل الله الرحمة مائة جزء؛ فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها؛ خشية أن تصيبه))؛ أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن لله مائة رحمة، واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يتعاطف الوحوش على أولادها، وأخَّر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة))؛ هذا حديث متفق عليه.
وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم : ((إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن الإنس، والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم)) أخرجه مسلم.
وعن عبدالله بن أبي أوفى الأسلمي: قال خرجت فإذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر وعمر قعودًا، وإذا غلام صغير يبكي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – لعمر: ((ضمَّ الصبيَّ إليك؛ فإنه ضالٌّ))، فضمَّه عمر إليه، فبينا نحن قعود إذ أمٌّ له تُوَلْوِل - أظنُّه قال: - وتقول: وابنيَّاه! وتبكي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعمر: ((نادِ المرأة فإنها أمُّ الصبي))، وهي كاشفة عن رأسها ليس على رأسها خمار جزعًا على ابنها، فجاءت حتى قبضت الصبي من حجر عمر، وهي تبكي والصبي في حجرها، فالتفتتْ فلمَّا رأتْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: واحرباه ألا أرى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند ذلك: ((أترون هذه رحيمة بولدها؟))، فقال أصحابه: بلى يا رسول الله، كفى بالمؤمن رحمة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفس محمد بيده، الله أرحم بالمؤمن من هذه بولدها)).
اقرأ أيضا:
بشريات كثيرة لمن مات له طفل صغير.. تعرف عليهادلائل الرحمة
من دلائل الرحمة في الدنيا، حلم الله عليك، وفي إمهالك، ولو شاء الله لعاجَلَك بالعقوبة، فما كنت ممَّن يسمع الآن سعة رحمته أو تظن أن الله - عز وجل - يعفو عنك ويرحمك حاجة إليك، حاشاه - سبحانه - واسمع إلى هذا الحديث عن أبي ذر عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما روى عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال: \"يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلاَّ مَن هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلاَّ مَن أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا مَن كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك ممَّا عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخِل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه".
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((قال الله: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
ومن رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة: فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله يُدنِي المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطَى كتاب حسناته، وأمَّا الكفار والمنافقون، فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)).
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها))؛ أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يقول الله - عز وجل -: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ هم خيرٌ منهم، وإن تقرَّب إلي شبرًا، تقرَّبت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).