يأتي دائما الكرب بعد المعصية، ويشعر الإنسان في أوقات كثيرة، بالضيق، نتيجة ما قدمت يداه من الشر، والبعد عن الله سبحانه وتعالى واليأس من روح الله والعياذ بالله، فالقنوط أكثر ما يجلب البلاء، قال تعالى: "ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (51)"، إلا أن الذكي هو من يلجأ إلى الله بعد المعصية ويسارع بالاستغفار.
قال تعالى: "۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)".
كن كصاحب الحوت
ضرب نبي الله يونس عليه السلام، المثل في اللجوء إلى الله عز وجل والمسارعة إلى الاستغفار بعدما تبين له ذنبه، حينما عاش في أرض الموصل، وبعثه الله إلى أهل نينوى، وسمَّي في القرآن سورة باسمه.
وذكر الله عز وجل قصة يونس في معرض قصص الأنبياء؛ فقال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الأنبياء:78-88.
ماذا حدث مع يونس؟
بدأت قصة يونس عليه السلام حينما امره ربه عز وجل ببلاغ الدعوة إلى قومه، ولكن قومه لم يستجيبوا له أول الأمر، فذهب مُغاضباً لهم، وركب البحر وشاء الله أن تقف به وبمن معه السفينة في وسط البحر، تهيج بها الرياحُ العاتية، مما أحوج إلى الاقتراع وإنزال أحدِ ركابها، فوقع السَّهم على النبي يونس، فألقوا به في البحر، فالتقمه الحوتُ وهو يائس حزين، ولذا نُسب إلى الحوت فيقل له: (ذو النون) أي صاحب الحوت، وعاش يونس فترة في بطن الحوت، لا يهشم له لحماً، ولا يكسر له عظماً، لكنه في ظلمات موحشة، فأنقذه الله منها بعدما سارع بالاستغفار قائلا: " (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:78-88].
خرج يونس مريضا ضعيفا، كهيئة الفرخ الذي ليس عليه ريش، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان يستظل بها أو يصيب منها فيبست، فبكى عليها حين يبست، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مئة ألف أو يزيدون، أردت أن تهلكهم؟!.
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبالصبر على البلاء والعمل بالتوبة
ومن المواعظ التي دلت عليها قصة يونس عليه السلام، أهمية الصبر والحاجة إلى التواصي به، ولهذا جاء تأنيس محمد صلى الله عليه وسلم به، وتذكيره بقصة يونس في سبيل دعوة قومه:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم:48-50].
فما قدَّره الله على يونس لحكمةٍ بالغة، لا يقلّل من شأنه ولا ينبغي لأحدٍ أن يقولَ عنه أنه أفضل منه، ولذا ورد في "الصحيحين" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى".
فبعد ان تعرض يونس لليأس وابتلاع الحوت له، يظل حياً، وإن غيب في ظلمة البحر وظلمة الليل في بطن الحوت، قال تعالى : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء:67-69 ]
ولعل الدرس الأكثر بلاغة في قصة صاحب الحوت، أن تتجه إلى الله وحده، وترغب إليه وتدعوه دعاء المكروب، دعاء المعترف بخطئة الواثق بنصرة خالقه، واللهُ لا يخيب الرجاء :(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:87-88].
فهذا الدعاء هو مفتاح للإجابة وسبيل للنجاة، وروى الإمام أحمدُ والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوة ذي النون: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنها لا يدعو بها مسلم ربَّه في شيء قط إلا استجاب له".
وفي رواية: "اسم الله الذي إذا دعوي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوةُ يونس بن متّى"، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: "هي ليونس بن متّى خاصة، ولجماعة المؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) "؟.
كما يتبين من قصة يونس صدق التوجه إلى الله، والتضرع إليه، وبالصدق والتوبة والدعاء، يرفع الله الضراء ويكشف البلوى، وتأملوا ما خصَّ الله قوم يونس بقوله تعالى:(فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
فعظم الجزاء مع عظم البلاء، ويبتلي الله عباده على قدر إيمانهم، والأنبياء أكثرُ الناس بلاءً، ومع ما وقع ليونس عليه السلام من البلاء فقد كان في نجاته درسٌ له ورفعة وذكرى للمؤمنين من بعده، وصدق الله:(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء:88].
فكن كصاحب الحوت صدق في التوجه إلى الله، وتسبيح بحمده وحده، وطلب الغوث والنجاة منه، وإذا وصلت الأمة والأفراد هذا المستوى فسيأتيهم ما يوعدون.