قالت عائشة لما رأيت من النبي طيب النفس قلت: يا رسول الله ادع الله ليقال:اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر وما أسرت وما أعلنت؛فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجر رسول الله من الضحك، فقال أيسرك دعائي؟، فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك، فقال: والله إنها لدعوتي لأمتي في كل صلاة.
رحمة تستحق التفكير
هل فكرت يوما في أن هناك من يهتم لأمرك ويدعو لك في كل صلاة؟، هل فكرت يوما في أن هناك من يحزنه أن تخسر الدنيا والأخرة؟، هل فكرت يوما أن هناك من يدعو لك بالرحمة والمغفرة ويبكي شوقا لرؤيتك؟، هل فكرت يوما أن هناك من يهتم بك قبل أن تولد وبعد أن تموت؟.
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان رحيما بأمته، ورحيما بالإنسان أيماكان جنسه ولونه، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بكى لموت يهودي، وحينما سأله الصحابة عن سر بكائه قال لهم: " نفس تفلتت مني إلى النار".
لم يبكي النبي صلى الله عليه وسلم على مصلحة شخصية أو نصر مؤزر ضاع منه، بل بكى لنفس إنسان ستذهب إلى النار لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم إنقاذها.
نبينا صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد الذي يأتي يوم القيام يقول أمتي.. يوم يقول كلُّ نبيٍّ: نَفْسِي نَفْسِي!! فيقول هو صلى الله عليه وسلم: «يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي» (البخاري ومسلم – جزء من حديث الشفاعة)!! فلا تقرُّ عينه صلى الله عليه وسلم حتى تدخل أمَّتُه الجنَّة!!.
بل إنه صلى الله عليه وسلم آثر أمته بدعوته المستجابة، التي خصَّ الله بها كلَّ نبيٍّ؛ فادخرها هو لأمته يوم القيامة، حين تشتدّ حاجتُها وكربتُها!!.
يقول صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ الله مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بالله شَيْئًا» (البخاري ومسلم).
رحيم بأمته
ومن روائع تلك الرحمة المهداة، وكمالِ الشَّفَقَة بأمته صلى الله عليه وسلم؛ أن يؤثرَهم على حظ نفسه في العبادة، التي يجدُ فيها قرَّة عينه؛ فكثيرًا ما يترك العملَ الذي يحبُّ أن يعملَ به رحمةً بهم.
تقول عائشة رَضِيَ الله عَنْهَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ؛ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ (البخاري ومسلم).
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا؛ فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» (البخاري).
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ حَمُولَةً، ولَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي!! وَلَوَدِدْتُ أَنِّي قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ الله فَقُتِلْتُ، ثُمَّ أُحْيِيتُ، ثُمَّ قُتِلْتُ، ثُمَّ أُحْيِيتُ» (البخاري ومسلم).
كان صلى الله عليه وسلم حريصًا أشدَّ الحرصِ على رفع الحرج والعَنَت والمشقَّة عن أمته في أمورِ معاشِها؛ رحمةً بهم؛ فيدعو لمن يرحمهم ويرفق بهم، ويُحَذِّر كلَّ من ولاه الله شيئًا من أمورهم، أن يشقَّ عليهم؛ بل ويدعو عليه؛ فكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (مسلم).
اقرأ أيضا:
يتعامل النبي مع المخطئين بطريقة رائعة.. تعرف على جانب مضيء من دعوته بالرفق واللبينرحيم بالكافرين
أما رحمته صلى الله عليه وسلم بالكافرين؛ رغم أنهم آذوه وأدموا قدمه الشريفة وأغروا به سفهاءهم؛ فلما عُرِض عليه إهلاكهم؛ قال: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (البخاري ومسلم)!!.
قاتلوه، وشجَّوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، وكسروا رَباعيته، وقتلوا أحبَّ النَّاس إليه، وألَّبُوا عليه الجيوش لاستئصاله؛ فلمَّا أن أظفرَه الله عليهم؛ رحمَهم، وعفا عنهم، وأحسن إليهم!!.
لم تقف رحمته صلى الله عليه وسلم عند الإعراض عن أذيَّتهم والصفحِ عنهم، والحلمِ عن جهالاتهم؛ بل إنها تعدَّت ذلك إلى مجال أرحب وأفسح، يتجلى في حرصه البالغ على هدايتهم وإنقاذهم من موجبات سخط الله وعذابه، فأرهق في سبيل ذلك نفسه الشريفة، وأجهد بدنه؛ حتى كاد يُهلك نفسَه أسفًا عليهم؛ حتى رفق به ربه و عاتبه رأفة ورحمة به؛ فقال له: " لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ "[الشعراء: 3] وقال له: " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " [فاطر: 8].
وكفى من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه القائل : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» .
رحمته بالحيوان والطير والجماد
واتسعت رحمته صلى الله عليه وسلم لتشمل الطير والحيوان؛ فأمر بالرِّفقِ بها، وتوعَّد من عذَّبها أو حبسها حتى الموت بالعذاب والنار في الآخرة.
ونهى صلى الله عليه وسلم أن تُجعل الطيور أو غيرها؛ من ذوات الأرواح، هدفًا للرمي بالسهام وغيرها من الأسلحة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» (مسلم).
ونهى صلى الله عليه وسلم أن تُصْبَر البهائم (البخاري ومسلم)؛أي أن تُحبس وهي حيَّة؛ لتُقتَل بالرمي ونحوه.
وقال صلى الله عليه وسلم محذرًا من يؤذي الحيوان الضعيف: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا؛ فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» (البخاري ومسلم).
ومَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعيرٍ قد لَحِقَ ظهره ببطنه، فقال: «اتَّقُوا الله في هذِهِ البَهَائِمِ المُعجَمَةِ؛ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً».
ومن مظاهـر شفقته ورحمته صلى الله عليه وسلم بهذه المخلوقـات الضعيفة؛ ما يرويه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قائلاً: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة معها فرخان، فأخذنا فَرْخَيْهَا، فجاءت الحُمَّرَة فجعلت تُعَرِّشُ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا".
فلا عجب إذن أن يبكي الحيوان البهيم بين يدي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ويشتكي له ما يجده من قسوة صاحبه!!
فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فدخل حائطًا (بستانًا) لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلمَّا رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفْرَاه (أصل أذنه) فسكن، فقال: «مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الجَمَلِ؟»، فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسـول الله. فقال: «أَفَـلا تَتَّقِي الله فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ الله إِيَّاهَا؟ فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ».
واتسعت رحمته صلى الله عليه وسلم لتشمل الجماد أيضًا!!فعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ ذَهَبَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ فَاحْتَضَنَهُ، فَسَكَنَ. فقالصلى الله عليه وسلم: «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (البخاري).
اقرأ أيضا:
أول جمعة بالمدينة.. ماذا قال فيها النبي؟