أجمع العارفون بالله أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، فسيئاتك في الخفاء تنسف حسناتك في الملأ، فإذا اسْتَوَتْ سريرة العبد وعلانيته؛ قال الله عزَّ وجلَّ : هذا عبدي حقًّا "، ومن ساءت سريرته كان بمثابة نصف عبد.
فالعمل الذي بين العبد وربه ولا يعلم به أحد من الناس "الخبيئة الصالحة"مكانة عظيمة عند الله ومنزلة رفيعة يجد العبد أثرها وأجرها أحوج ما يكون إليها يوم القيامة فإن للذنوب في الخلوات والإصرار على مناجزة الله بالمعاصي كلما خلا بنفسه وغابت عنه أعين الناس أثرها السلبي الخطير على عبادات العبد وطاعاته وحسناته .
وجاء في الحديث الشريف عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) سنن ابن ماجه.
قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله : "الحذر الحذر من الذنوب خصوصا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تعالى تُسقط العبد من عينه وأصلح ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية ".
وأخطر ما في ذنوب الخلوات وقوع العبد بجريرة جعل الله تعالى أهون الناظرين إليه وسقوطه في معصية تعظيم شأن الناس والخشية منهم من أن يروه على معصيته وذنبه على حساب مراقبة الله وعظمته وخشيته في قلبه , الأمر الذي قد يقدح في صدق إيمانه ويمس حقيقة يقينه بإطلاع عليه في سره كما علانيته .
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبيقول ابن عباس رضي الله عنه : يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنَنَّ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَلِمْتَهُ فَإِنَّ قِلَّةَ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ ........ وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَلِمْتَهُ ..... ).
ومن هنا يمكن فهم عقوبة إحباط أعمال صالحة ونسف عبادات وطاعات كجبال تهامة وجعلها هباء منثورا كجزاء على ذنوب الخلوات كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه إذ الأمر هنا يتعدى حدود مجرد الذنب العابر إلى عتبة النفاق و داء ومستنقع الرياء في الأعمال .
الخبيئة السيئة والمنافق
وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال أؤلئك الذين هم أقرب إلى المنافقين بأعمالهم, والدليل على ذلك أنهم "إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها", والانتهاك قرين الاستحلال والأمن من مكر الله وعقوبته , وهو ما يتنافى مع حال المؤمن الذي وإن غلبت عليه شهوته وأوقعته بالمعصية والذنب فهو لا يعصيه مستحلا نواهيه و زواجره وإنما يعصيه تحت وطأة غلبة الشهوة وهزيمته أمام إغوائها وإغرائها, وضعف ارتقائه لمقام الإحسان وحسن مراقبة مالك الأكوان .
لذلك تحذير المؤمن من الوقوع في ذنوب الخلوات والظهور بمظهر العابد الناسك أمام الخلق والناس بينما ينتهك محارم الله في خلواته ويتجرأ على معصيته حين يكون وحده، لا يعني أن المجاهرة بالذنوب وإعلان المعصية واقترافها أمام أعين الناس دون حياء وخجل منهم أو خوف وخشية من الله مسموح به في دين الله , فالمجاهر بالمعصية أمام إثمين : إثم المعصية ذاتها وإثم المجاهرة بها .
فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ).
سمات النفوس الطاهرة
أما سمات أصحاب النفوس الطاهرة والقلوب النقية والأفئدة التقية استواء سريرتهم وعلانيتهم , فحالهم أمام الناس كحالهم في خلوتهم , وخشيتهم من الله في الظاهر كخشيتهم منه في الباطن , لا يفسدون طاعات العلانية بمعصية السر ولا يحبطون أعمالهم الصالحة الظاهرة بذنوب الخلوات الخفية .
قد ورد في الأثر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ما أسَرَّ عبدٌ سريرة إلا أظهرها الله على قَسَماتِ وجهه وفلتات لسانه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشَرٌّ .
اقرأ أيضا:
كيف تشكر الناس بطريقة تجعلهم أسرى في خدمتك؟