ما أكثر الجدال الذي يكشف صاحبه، فربما انقلب المجادل على نفسه وفقد لياقته حينما ينتصر لرأيه، فتفاجئ به وهو يصول بصوته كأنه ثور هائج، لترى شخصا غير الذي يزعم لباقته، فإذا أردت أن تعرف الشخص على حقيقته انظر له حينما يدافع عن رأيه، فإذا وجدته هادئا يناقشك بالأدلة والبراهين، ويحترم اختلافك طالما التزم كل منكم بالعلم والعقل، فاعرف أنه واثق من نفسه يعرف قدر اجتهاده واختلافك معه، وإذا وجدته يرفع صوته، ولا يملك سوى إرهابك به، فاعرف أنه خاويا من الداخل ولا يملك لنفسه شيئا سوى ما يزعمه أمام الناس.
فوقتها فر من أمام صاحب هذا الصوت، والزم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا صاحب بيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال ولو كان محقا"، لأن استمرارك في الجدال معه سيخلق بينكم كراهية كبيرة، وسيصيبك بالتوتر والعصبية.
أنكر الأصوت صوت الحمير
حينما نصح نبي الله لقمان ابنه قال له: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) ".
وفي قوله لابنه: "اغضض من صوتك"، أي خفضه إلى مستوى الحاجة، حتى لا يكون في ذلك شيء من سوء الأدب وإساءة إلى مسامع الآخرين، لأن أنكر الأصوات صوت الحمير، أي إن أقبح الأصوات هو صوت نهيق الحمير لما فيه من العلو المفرط عند ممارسة عملية التنفس من الشهيق والزفير، وذلك من الفزع الذي ينتاب تلك الحيوانات عند رؤيتها للشياطين.
وثبت بالقياس، أن لصوت نهيق الحمار شدة تقدر بما يتجاوز المائة ديسيبل, وأن كثرة تعرض الإنسان لهذا الصوت الشديد قد يصيب أذنيه بالصمم, ويصيب صاحبهما بالعديد من الأمراض العصبية والبدنية، ولذلك تم وضع جداول لتحديد أقصي مدة يمكن أن يتعرض لها الإنسان تحت شدة معينة من الأصوات، فإذا وصلت شدة الصوت إلي (45) ديسيبل لا يستطيع الفرد العادي أن ينام في هدوء، وعند (85) ديسيبل تبدأ آلام الأذنين, أما إذا وصلت شدة الصوت إلي (160) ديسيبل فإن الإنسان يصاب بالصمم التام، وإذا كان نهيق الحمار يتعدى في شدته مائة ديسيبل, فإنه يعتبر من أشد الأصوات إيذاء لأذن الإنسان, وهنا تتضح لمحة الإعجاز العلمي في هذا التقرير القرآني الكريم.
ويتضح وجه الإعجاز القرآني للغض من الصوت, والتذكير بأن أنكر الأصوات هي تلك الأصوات الفائقة الشدة, المرتفعة النبرة, والتي تؤذي السامعين, وتسيء إليهم إساءات مادية ومعنوية, لما تحمله من صور التكبر علي الخلق, والاستعلاء في الأرض, وهما خصلتان سيئتان, لا يحبهما الله ــ سبحانه وتعالي ــ ولا يحبهما رسوله ــ صلي الله عليه وسلم ــ ولذلك أمر القرآن الكريم بخفض الصوت.
كيف تكون صاحب جاذبية من صوتك؟
هناك نبرة صوت تأسر القلوب وتخلب الألباب، بعض الأصوات ونقاشاتها تلهمك الإبداع والتأمل، لكن هل يتمتع بعض المتحدثين بأصوات أكثر جاذبية من غيرهم، لذلك يتخذ منهم المذيعون ورواة القصص والشعر والأدب.
وينزع الناس إلى الحكم على الآخرين من نبرة الصوت. فقد أشارت دراسة إلى أن الناس يميلون للاعتقاد أن أصحاب الأصوات الجذابة أكفاء وعطوفون وجديرون بالثقة، وقد يطلق على هذه الظاهرة اسم "تأثير الهالة"، إذ نعتقد أن الأشخاص الطيبين أكثر جاذبية من غيرهم.
ويربط الناس عمق الصوت بالقدرة على الصيد والنجاح المهني والقوة البدنية، وقد نحكم على السياسيين الذين يتمتعون بأصوات أكثر عمقا، سواء كانوا رجالا أو نساء، بأنهم أكثر جدية وأوفر حظا للفوز في الانتخابات.
وأشارت دراسة إلى أن فرص الرجال والنساء أصحاب الأصوات الرخيمة أعلى من غيرهم في الحصول على الوظيفة. فإذا أردت أن تقنع الآخرين بأنك جدير بالوظيفة، قد يجدر بك أن تخفض طبقة صوتك لتصبح أكثر عمقا.
اقرأ أيضا:
وإن سألوك عن السعادة؟.. قل هذا مفتاحهاومن المعلوم أن طبقة الصوت ترتبط بمستويات هرمون الذكورة "التستوستيرون" عند الرجال، وهو عامل مهم عند اختيار شريك الحياة، لأن الرجل الأقوى من الناحية التطورية، قد يكون أكثر جاذبية جنسيا. فعندما كان البشر يعتمدون على الصيد وجمع الثمار، كان الصوت العميق يعكس مهارات أخرى تتطلب هرمون التستوستيرون. وقد تدل طبقة الصوت على مدى قدرة المتحدث على صيد الحيوانات، ومن ثم مدى قدرته على إعالة أطفاله ومدى قدرة أطفاله على نقل هذه الجينات إلى نسلهم مستقبلا.
وهناك أسباب جوهرية وحاجات ملحة قد تقنعك بعدم تغيير نبرة الصوت. فالأشخاص الذين يتحدثون بنبرة صوت معتدلة يسهل فهمهم، لأن عدد الأشخاص الذين يتحدثون بنبرة معتدلة أكثر بمراحل من عدد الأشخاص الذين يصطنعون طبقة صوت أعلى أو أقل من المعتاد.
وقد أثنى الله على الذين يغضون من أصواتهم وبخاصة في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات: 3]. ونهى عن رفع الصوت بحضرته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ، مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ (راوي الحديث عن أنس): فَرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ» رواه البخاري.
حتى في قراءة القرآن الكريم لا يرفع المسلم صوته على أخيه حتى لا يؤذيه؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُون بِالْقِرَاءَةِ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ، فَكَشَفَ السُّتُورَ، وَقَالَ: «إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعَنَّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ -أَوْ قَالَ: فِي الصَّلَاة» رواه الإمام أحمد في "مسنده".
إن خفض الصوت ينبغي أن يسود بين الأفراد والجماعات وطلاب الحاجات والأزواج والزوجات، ففيه دليل على حسن الأدب واللُّطف في الطَّلب، وفيه التَّشبُّه بأشرف المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وهو باب من أبواب قبول الدُّعاء، وفيه محافظة على شعور المسلمين بعدم إيذائهم وخاصة في المسجد .
اقرأ أيضا:
ميزان البقاء ومفتاح الحياة الآمن.. لا تدع هذه الشعيرة مع أسرتك وأصدقائك الآن