يَنصَبّ جهد الكثيرين في هذه الأيام على تحري ليلة القدر لا سيما في أوتار الليالي العشر، وهذا أمر حسن بلا شك فهي ليلة العتق من النيران ليلة رفع الدرجات والعفو عن الخطايا والسيئات .. لكن ما يلزم معرفته هو أن حال بعض الناس يكون الكسل بعد العبادة والفتور خاصة إن رأى في نفسه أن اجتهد في طاعته وشعر ولو للحظة أنه من المقبولين. فضل الحراسة في سبيل الله:
وهذه الحال التي يقع فيها بعض الناس تجعله يعجب بعمله خاصة إن رأى غيره لم يجتهد مثل اجتهاده ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن هناك مهن معينة وطاعات معينة تفوق في فضلها ليلة القدر؛ فقد أخرج الحاكم والبيهقي بسند صحَّحه الألباني من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوفٍ لعله ألا يرجع إلى أهله)).
إن هذا الحديث الشريف يحمل رسالة للجميع بأن من فرط في رمضان فإنه قد يدرك ثواب
ليلة القدر بل خير منها إن هو حقق مضمون هذا الحديث الشريف.
فإن كنا مأمورين بتحري
ليلة القدر في وتر العشر الأخير من رمضان فإننا مأمورين بتحريها أيضا في أعمال البر وصلة الأرحام والتواصي بالخير فالأمر لا يقتصر على الصلاة والدعاء فقط ومن أفضل هذه الأعمال كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحراسة في سبيل الله لدفع الصائل فلايزال هناك متسع لفعل الخير فالحديث الشريف يوضح جانبًا من العبادات قد يغفل عنه الكثيرون؛ فالحارس المجاهد في سبيل الله، أو الذي يخدم وطنه ويحافظ على أرض شعبه من العدوان ينال ثواب عظيما.
معنى الحراسة في سبيل الله:
والذي يسهر على حفظ دماء المسلمين وأعراضِهم وديارهم وأموالهم، من الحراس الذين يسهرون من أجل حماية أموال الآخرين ويتعرضون في سبيل ذلك للمخاطر التي لا يأمنون حيالها على أنفسهم وأولادهم.
ويشمل الحديث كل من يرعى مال الغير سواء "الخفراء" أو من ينتظمون في شركات وضيفتها الحراسة أو غير ذلك من المهن التي فيها معنى المخاطرة للحفاظ على ما للغير من أموال الناس وأعراضهم ففي الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
إن ما يدعو إليه الإسلام بهذا الحديث هو أن الحراسة وصيانة أموال الغير أو الممتلكات العامة من الضياع والنهب وظيفة من أشرف الوظائف، والقائم عليها في درجة عالية وعبادة تعلو وتفوق عبادة ليلة القدر التي ورد في فضلها أنه خير من ألف شهر.
ولك أن تتأمل قصة نبي الله يوسف - عليه السلام - يوم أن قال لعزيز مصر: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، وهو يُخاطِبه في سنين القحط والجَدْب والقلة والفاقة؛ لأنه يريد أن يخدُم المجتمع.
أيضا تفكر فيما قام به نبي الله موسى - عليه السلام - وقوله: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، وهو يُقدِّم خدمة لآخرين.
بل لك أن تقرأ بقلبك كيف كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقد وصفته خديجة زوجه حينما أتاه الوحي في الغار فأصبح فزعا فهدأته وقالت له: (كلا، والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتَصِل الرَّحِم، وتَحمِل الكلَّ، وتَكسِب المعدوم وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق).
فهذا هو حال الصالحين وهذه هي مهنة الأنبياء وهذه العبادة من العبادات الجليلة التي قل من يعرف فضلها.
ليلة الحراسة خير من للية القدر:
تَفضَّلَ اللهُ على عِبادِه بأعمالٍ وقُرُباتٍ لزيادةِ الأجرِ واغتِنامِ الثَّوابِ منه سُبحانَه؛ ليَتحرَّى المُؤمِنونَ أعمالًا مُتنوِّعةً، فمَن فاتَه شَيءٌ أدرَكَ غيرَه، ومِن ذلك الرِّباطُ في سَبيلِ اللهِ، والمُحافظَةُ على بِلادِ الإسلامِ؛ فهو من أعظَمِ الأعمالِ التي يَستمِرُّ ثوابُها.
وقد ذكرت اللجنة العلمية للدر السنية أن الحراسة المذكورة في الحديث هو ما يُعرَفُ بالرِّباطِ، وهو الَّذي يُلازِمُ ثُغورَ بلادِ المُسلِمينَ مع بلادِ الكُفَّارِ لحِراسَتِها، وهذا مِن أعظَمِ الأعمالِ عِندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومعنى أنَّها أرضُ خوفٍ: أنَّ الحارِسَ في سَبيلِ اللهِ يكونُ في أرضٍ فيها خَوفٌ على الحَياةِ بسَبَبِ عَدُوٍّ، أو أنَّها أرضُ ثُغورٍ، يكونُ فيها حارِسًا للمُجاهِدينَ يحفَظُهم عن الكُفَّارِ، أو غيرِ ذلك مما يُخافُ منه، "لعلَّه أنْ لا يَرجِعَ إلى أهْلِه"؛ فالحارِسُ في حِراستِه هذه لا يَضمَنُ أنْ ينجُوَ بحَياتِه، ويَرجِعَ إلى أهْلِه مرَّةً أخرى؛ وذلِك أنَّه قد يُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذه مَرتَبةُ المُجاهِدينَ في العِبادَةِ، وهي تَشمَلُ الحجَّ، وطلَبَ العِلمِ، والجِهادَ في سَبيلِ اللهِ بالحَربِ، وغيرَ ذلك مِن العِباداتِ والمُجاهَداتِ للنَّفْسِ.
وعن سر تفضيل ليلة الحراسة عن ليلة القدر، ذكرت أن ذلك لأنَّ ليلةَ القَدْرِ يعودُ نفْعُها على صاحبِها، وليلةَ الحراسةِ يعودُ نفْعُها مُتعَدٍّ إلى سائرِ المُسلِمينَ، وهذا أفضلُ، ولأنَّ ليلةَ الحراسةِ تُوجِبُ الجَنَّةَ، كما في رِوايةِ أبي داودَ، وفيها قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأنسِ بنِ أبي مَرْثَدٍ الغَنَويِّ بعدَ أنْ باتَ حارسًا لهم: "قدْ أَوجبتَ؛ فلا عليك أنْ لا تَعمَلَ بعدَها"، أي: عمِلتَ عملًا يُوجِبُ لك الجَنَّةَ.