رمضان هو شهر الصبر والإحسان، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ سورة النحل/90، في هذه الآية يأمرنا الله تعالى بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والإحسان أن يعطي المسلم الناس الذين لهم حق عليه حقوقهم ويزيدهم منه شيئًا فوق الحق الواجب لهم كرمًا منه وإحسانًا من باب جزاء الإحسان بالإحسان ورد الجميل بأحسن منه.
الشيخ عبد الله الهرري يقول: والشرع الحنيف يقول: “أحسن إلى من أساء إليك”. فلقد رُوي عن سهل التستري رضي الله عنه أنه كان له جار مجوسي فانفتح خلاء المجوسي إلى دار سهل فأقام سهل مدةً ينحي في الليل ما يجتمع من القذر في بيته حتى مرض، فدعا المجوسيَ وقال له إنه يخشى أنّ ورثته لا يتحمّلون ذلك الأذى كما كان يتحمّله فيخاصمون المجوسي، فتعجّب المجوسي من صبره على هذا الأذى، ثم قال له: تعاونني بذلك هذه المدة الطويلة وأنا على ديني، مدّ يدك، فمدّ يده قائلًا: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدًا رسول الله. ثم مات سهل رضي الله عنه.
أما الصبر فهو كذلك خلق عظيم وهو حبس النفس وقهرها على مكروه تتحمله أو لذيذ تفارقه، والصبر الواجب على المكلف هو الصبر على أداء ما أوجبه الله تعالى عليه من الطاعات والصبر عمّا حرّم الله، أي كفّ النفس عمّا حرّم الله سبحانه، والصبر على تحمّل ما ابتلاه الله عزّ وجل به بمعنى عدم الاعتراض على الله أو الدخول فيما حرّمه الله بسبب تلك المصائب.
إن رمضان فرصة لنشحن نفوسنا بالإخلاص والصدق والصبر والقناعة والتسامح وحسن المعاملة وغيرها من الأخلاق التي جاء بها الإسلام.
ويمضي الشيخ عبد الله الهرري قائلًا: ومن فوائد الصيام أنه يدفع المؤمن إلى السعي الحثيث ليساهم في سدّ حاجات الفقراء والمساكين. وهو موسم لإصلاح ذات البين والتغلب على الخصومات والمشاحنات بين أهل الإيمان وموسم لمضاعفة برّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران.
هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟ وكم من محتال فيها خدعته؟ وكم من مختال أصبح حقيرًا؟ وذي نخوة أردته ذليلًا؟ العمر فيها قصير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكّارة، وأيامها غرّارة، ولأصحابها بالسوء أمّارة.
فلنجدد الدعوة في رمضان إلى الإحسان والثبات على طاعة الله والصبر على النوائب، والرضا عن الله تعالى وذلك بالصبر وعدم الاعتراض فالله سبحانه مالك الملك وهو فعّال لما يريد ونحن وما نملك مملوكون لله تعالى والله يفعل في ملكه ما يشاء.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ سورة الزمر/10. اللّهمّ يا من لا تنفعه الطّاعة، ولا يضرّه العصيان، نسألك من واسع فضلك وعظيم مغفرتك، ونســـألـــك أن تـجـعـلـنـا مـن عـبـيـدك الصابرين المحسنين.
ويقول د. محمد المجالي: من جمع أمري التقوى والصبر فلا بد فائز، ووصف الله الصفتين معا بأنهما (إحسان)، حين قال: “فإن الله لا يضيع أجر المحسنين”. والإحسان مرتبة عالية فيها معنى المراقبة لله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، واستحقت هذه المرتبة الصدارة لأنها معية الله، ومن كان مع الله كان معه وأحبه ورضي عنه ودافع عنه وتولاه، وهذه قمة السعادة المؤهلة للفوز بنعيمي الدنيا والآخرة.
وورد الجمع بين التقوى والصبر في ثلاثة مواضع أخرى من القرآن في سورة آل عمران، الأول قبيل الحديث عن غزوة أحد، في معرض النهي عن اتخاذ بطانة من الأولياء من دون المؤمنين، فما تخفي صدورهم أعظم مما يتفوهون به من البغضاء، ومع ذلك يحبهم المسلمون وأولئك لا يحبونهم، بل يظهرون نفاقا أنهم مؤمنون، وما يحدث للمسلمين من خير يسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها، وهنا يقول الله تعالى: “وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا”، فهو نوع آخر من التوفيق في رد كيد الأعداء، وما أكثر كيدهم ومكرهم.
والموضع الثاني في السورة جاء أثناء الحديث عن غزوة أحد بجراحاتها ودروسها العظيمة، فذكرهم الله بما وجه به نبيه أن يقوله لهم، من إمداد الملائكة، ثلاثة آلاف مُنزَلين، فقال تعالى: “بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسَوَّمين”، فهو الإمداد المحفوف بالعناية والرعاية، يذكرهم به لو أنهم صبروا، لما حل بهم ما حل.
وفي الموضع الثالث في السورة في أواخرها بعد آيات أحد يخبرنا الله تعالى عن مطلق سنة الابتلاء في هذه الدنيا، وعن الأذى الذي يتعرض له المؤمنون من خصومهم فقال: “لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور”، ويا له من تعبير رائع إذ الصبر مع التقوى يولدان عزيمة وإرادة مشحونتان بقوة هائلة من الإيمان لا يتصور المؤمن معه أي عوائق في انطلاقته لنيل رضا الله تعالى.
والعجيب أن هذه الآيات الثلاثة في سورة آل عمران قدمت الصبر على التقوى، بينما في سورة يوسف تقدمت التقوى على الصبر، فيوسف عليه الصلاة والسلام نبي، وكان من أمره ما كان، فالتقوى حاصلة وتحلّت بالصبر، بينما كان العنصر الذي فيه خلل مع الصحابة هو موضوع الصبر، ولذلك قدمه تعالى هنا تذكيرا لهم بأهميته، وإلا فالتقوى موجودة، لكنها لا تكفي وحدها لنيل العزة والنصر، فلا بد من الصبر أيضا، ويؤخذ المجموع بجريرة بعضهم، وهو درس قاس لنا في ضرورة أن نكون يدا واحدة على أعدائنا، فحين يقترف بعضنا إثما نُهزَم، فكيف بالفرقة والتنازع والتدابر!؟
التقوى مع الصبر شعار المؤمن في حياته في شؤونه كلها، في البيت والعمل والمسؤولية على اختلاف مراتبها والدعوة والنضال، بل في بناء الحضارة الإنسانية التي ننشدها جميعا من أجل سعادة الإنسان
اقرأ أيضا:
هل يقف الإسلام وراء جرائم الدفاع عن الشرف؟ وما هي ضوابط إقامة حد الزنا؟اقرأ أيضا:
هذه الأوقات يُستجاب فيها الدعاء.