دائما وقبل أن يشمر الإنسان لأي عمل كبير، تأخذه حالة من الغفلة، وقد تصل الغفلة إلى الراحة، وربما تغيير البوصلة لمكان بعيد، بدلا من أن يشمر لعمله، فالطالب إذا جاء قبل أيام الامتحانات، ولزم الراحة سيفشل، بل عليه أن يكثف من مراجعة دروسه، حتى يكن على أتم الاستعداد للامتحانات، واللاعب إذا نزل الملعب دون عملية الإحماء، قد يصاب بأي إصابة عضلية لأنه لم يجهز نفسه قبل المشاركة في اللعب، وكذلك المؤمن إذا لم يجهز نفسه للطاعة شغلته المعصية.
يقولُ أُسامةُ بنُ زيدٍ رَضِي اللهُ عنهما: "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لم أَركَ تَصومُ شَهرًا مِنَ الشُّهورِ ما تَصومُ مِن شعبانَ؟" أي: لا تُكثِرُ مِن صِيامِ التَّطوُّعِ في شَهرٍ مِن شُهورِ السَّنةِ بِمثلِ ما تُكثِرُ في صِيامِ شَعبانَ، وكان قد ورَد في صِيامِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِشعبانَ ما رُوِيَ في الصَّحيحَيْن مِن حَديثِ عائشَةَ رَضِي اللهُ عنها: "كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصومُ حتَّى نَقولَ: لا يُفطرُ، ويُفطرُ حتَّى نَقولَ: لا يَصومُ، فَما رأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَكملَ صيامَ شَهرٍ إلَّا رَمضانَ، وما رأيتُه أكثَرَ صِيامًا مِنه في شَعبانَ".
فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأسامة مُبيِّنًا له سَببَ صِيامِهِ: "ذلك شَهرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عنه بَين رجبٍ ورَمضانَ"، أي: يَسْهو النَّاسُ عنه لِإكثارِهِمُ العِبادةَ في هَذَينِ الشَّهرينِ، "وهوَ شَهرٌ تُرفَعُ فيه الأعمالُ"، أي: أَعمالُ بَني آدمَ مِنَ الخيرِ والشَّرِّ والطَّاعةِ والمَعصيةِ، "إلى رَبِّ العالمينَ"؛ فلِذلك يَنبغي أن تكونَ الأعمالُ فيه صالِحةً، "فأُحِبُّ أن يُرفَعَ عَملي وأنا صائمٌ"؛ أي: لِأنَّ مِن أفضلِ الأعمالِ عِندَ اللهِ مِن عِبادِه الصَّومَ، أو أنَّ الأعمالَ الصالحَةَ إذا صاحَبَها الصَّومُ رَفَع مِن قَدرِها، وأثبَتَ خُلوصَها للهِ عزَّ وجلَّ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتدرب على الطاعة ويكثر قبل رمضان الصيام في شهر شعبان، وذلك حتى لا يصاب بالغفلة مث لكثير من الناس.
فشهر شعبان هو تهيئة لرمضان ، واستعداد له ، فكيف أن السنة القبلية استعداد وتهيئة وأن السنة البعدية ترميم ، أي يجب أن تصلي هذه الصلاة بشكل متقن ، فمن أجل الحفاظ على ركعاتها الأربع تصلي قبلها تهيئةً لها ، وبعدها ترميماً لما فاتك منها ، كيف أن السنة القبلية من معانيها - طبعاً هذا شيء اجتهادي - أنها تهيئ الإنسان لصلاة الفرض وأن البعدية ترمم ما فاته من الفرض ، كذلك هذا الشهر الفضيل شهر شعبان يهيئ لرمضان ، وصيام ستة أيام من شوال ترمم ما فات من رمضان .
وشعبان شهر الاجتهاد في القربات والطاعات، لأنه موسم فاضل الذى ينال الإنسان فيه بركة الوقت بأنواع من العبادات المشروعة اقتداء بسلف الأمة، وتمهيدا لاستقبال شهر رمضان وتمرينا على الأعمال الصالحة.
اظهار أخبار متعلقة
ومما يستخلص مما أودعه ابن رجب في كتابه “لطائف المعارف” عن وظائف شهر شعبان، أنه قسم هذه الوظائف إلى ثلاثة مجالس، وافتتح المجلس الأول بتفضيل صيام شعبان على أشهر السنة غير رمضان مستندا ومستدلا بالحديثين الأساسين الواردين في الباب.
الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها وإنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان”
ويقول ابن رجب مبينا وجه المفاضلة من الحديث بصيغة السؤال والجواب:” فإن قيل: فكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: “أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم”؟
فكان جوابه من جهة الأثر والنظر: أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم.
1- أما الأثر: ففي سنن ابن ماجة: أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صم شوالا” فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات. فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم.
2- أما النظر: فكان التفضيل كذلك لشهر شعبان لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال، فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.
فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها؛ فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لما ينقص الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده
الحديث الثاني: حديث أسامة رضي الله عنه وإنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام:” ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”.
شهر يغفل عنه الناس
وقد استنبط الحافظ ابن رجب من هذا الحديث بعض معان دقيقة وفوائد جليلة وهي:
أولا: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك لما روي عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا؟ فقال: “فأين هم عن شعبان”.
ثانيا: وفي قوله عليه الصلاة والسلام: “يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان” إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.
ثالثا: فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر. فكذلك من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام.
فوائد إحياء ساعة الغفلة بالطاعة
1- أن إحياء وقت الغفلة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد.
2- أن أفضل الأعمال أشقها على النفوس، وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها. ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم “للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون”.
3- أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم.