يعتبر الخوف من الله من أجلّ الأعمال القلبية، وأكبر محركاتها، فإن هذا الخوف يدعو النفوس إلى فعل المأمورات وترك المنهيات، فهذا الباطن يستلزم الأعمال الظاهرة، فالخائف من الله ممتثل لأوامره، مجتنب لنواهيه، وكلما كان تصوره للمخوف تامًا، أوجب ذلك كمال المبادرة لفعل الخيرات والكف عن المنكرات، كما بسطه المؤلف في غير موضع.
فمقام الخوف من الله تعالى، والخوف من عذابه وعقابه هو الذي حقق لسلفنا الصالح الأحوال السنية والمنازل الرفيعة، ولذا قال الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن الخوف من الله أصل كل خير في الدنيا والآخرة، واستدل بقوله تعالى: {وَلَـمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، فأخبر تعالى أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله.
كما قال الإمام بن تيمية - رحمه الله -: «وخوفه من الله يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه: لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سُلّط عليه مخلوق فما سُلّط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله وليتب من ذنوبه التي نال بها ما ناله».
كما أن الخوف من الله وحده يجلب الأمن والطمأنينة، والاهتداء والبصيرة، كما قال تعالى على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 81 الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81، 82]، وفي المقابل فإن الخوف من الناس يجلب الرعب؛ فإن من خاف الله وحده خاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء.
فقال - رحمه الله -: «المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: ١٥١] والخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82]».
كما أن باعث الخوف من المخلوقين هو فساد في القلب، كما بيّنه الإمام بن تيمية بقوله: «ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه، كما ذكروا أن رجلًا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال: لو صححتَ لم تخف أحدًا. أي: خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك».
وقال في موطن آخر: «إن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئًا سواه قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق...».
والنفس البشرية لا تنفك عن الجهل والظلم، لاسيما إذا عُدمت الخوف من الله جلّ جلاله، فإذا غاب الخوف من الله تعالى ظهر البغي والتظالم، والعدوان والتشاحن.
وقد أفصح الإمام ابن تيمية عن ذلك بعلم ودراية بطبائع النفوس وفقه لدلالات النصوص، فقال: «إن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم، ويكف عن ظلمهم، وهذا إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم.. فإن طبائع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق، كثير الظلم إذا قَدِر، مهين ذليل إذا قُهِر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس».
إن الخوف من الله أشبه بالزواجر والسياط للنفوس الجاهلة الظالمة، وهو رادع للبشر عن الاسترسال في الأهواء، والانسياق مع الشهوات.
لذا أكد ابن تيمية أن خشية الله تعالى توجب صرف الناس عن أهوائهم، وأن الخوف من الله يحرر النفوس من رق العشق والملذات فقال:«إن الخوف من الله مضادٌ للعشق، وكل من أحبّ شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرفه عن محبته بمحبة ما هو أحبّ إليه منه، وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحبّ، فإذا كان الله أخوف عنده من كل شيء لم يحصل معه عشق إلا عند ضعف هذا الحب والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات...».
وإذا كان خوف العبد من الله قد يعتريه الضعف والنقصان، فلا بد من تحريكه ومعالجته وتعاهده، كما أوجزه ابن تيمية بقوله: «الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر، والعرض والحساب ونحوه».
اقرأ أيضا:
كيف تحمي نفسك من الحسد؟.. إليك وصية رسولنا الكريماقرأ أيضا:
حينما يقال عنك ما ليس فيك.. ماذا تفعل؟