لم يمكن لعاقل أيًا كان ن ينال من الجناب النبوي إلا إذا كان يجهل صفاته ولا يعرف أخلاقه.. فمحمد رحمة ساقها الله للكون.. وهو نور يستضاء به في ظلمات الأرض رفع الله به الشبهات وأرسى ببعثته القلوب.
ومن ينظر في سيرته يرى كيف كان رسول الله يعامل مخالفيه.. كيف يصبر عليهم وكيف كانوا يحترمون صفاته واخلاقه ويصفونه بالصادق الأمين.
إن من يتأمل سيرته يجد أن كثيرين دخلوا الإسلام لأجل طيب خلقه وسماحة طبعه يحلم على من يجهل عليه ويصبر وصدق من قال :
أخلاقه غزت القلوب.
الرحمة في حياة الرسول:
لقد جَسَّد الله خلق الرحمة في محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رحمة يمشي بين الناس، كان نبيا رحيما، وكان أبا رحيما، وكان زوجا رحيما، وكان صهرا رحيما، وكان جارا رحيما، وكان صاحبا رحيما، وكان إنسانا رحيما، وسماه الله "رؤوفا رحيما"، أي سماه الله بما سمى به نفسه، ووصفه بما وصف به ذاته العلية، فقال في حق نفسه سبحانه: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" (البقرة 143)، وقال في حق صفيه وخليله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" (التوبة128).
إن الرسالة التي أرسل الله بها صفوة أنبيائه محمدا صلى الله عليه وسلم، أراد الله عز وجل أن تكون رسالة عالمية، فقال تعالى:
"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (سبأ28).
"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان1). "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا " (الأعراف158).
وشاءت العناية الإلهية أن تكون تلك الرسالة العالمية، مبنية على مكارم الأخلاق، حيث يقول سيد الأخلاق صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"،(الجامع الصحيح للسنن والمسانيد)، لأن مكارم الأخلاق هي التي تقوم عليها الحياة، وتتقدم الشعوب، وتنهض الحضارات.
والرحمة أساس الأخلاق، هي ركنها الركين، وحصنها الحصين، منها تنبثق، وإليها تنتسب، وعليها تقوم، فالرحمة هي العفو، وهي التسامح، وهي العطف، وهي الرأفة، واللين، والرفق، والمحبة، والاستقامة، والإصلاح، والهدى، والرشاد، والعدل، والتآلف والتلاحم، والشفاء، والبركة، والبُشْرَى، إلى غير ذلك.
من أخلاق رسول الله:
وإذا كان الإسلام قد عُني بمكارم الأخلاق، فالمنطقي أن يكون نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، أعلى الناس أخلاقا، وأفضلهم خصالا، وأقومهم سلوكا، وأطيبهم قلبا، وأطهرهم نفسا، وأفصحهم لسانا، وأبلغهم بيانا، وأوسعهم صدرا، وأسماهم قدرا، وأعظمهم منزلة، وأرفعهم مكانا، وأثقلهم ميزانا، وأكثرهم علما، وأسبقهم فضلا، وألينهم كلاما، وأرسخهم قَدَما، وأزكاهم سيرة، وأطيبهم ثناء، وأسبقهم إلى محامد الصفات، ومكارم الأخلاق.
وحسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرا عند الله تعالى شهادة الله له، وثناؤه عليه بقوله تعالى: " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)" (القلم4).
ولا غرابة في ذلك، فقد امتن الله عليه، فجعل القرآن أخلاقه، وجعل النور الذي أنزله على قلبه، ينبوع خصاله، ومصدر صفاته، وجوهر سجاياه، فعن سعد بن هشام بن عامر، قال أتيت عائشة رضي الله عنها، فقلت يا أم المؤمنين، أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت :" كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن؟" (مسند أحمد).
إذن القرآن، الذي أنزله الواحد الديان، على قلب سيد الأنام، بما فيه من إشراقات الإيمان، وأحكام الإسلام، وسبل إصلاح الإنسان، ونُظُم نجاح حياته، وتكريمه كخليفة استخلفه الله في أرضه، ليعمرها ويطورها، "هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا "(هود61) مستغلا ما سخره له الله في كونه، وادَّخره له في أرضه، من كنوز ونفائس، وعطاءات وأقوات.
الرسول وفتح مكة:
ولذلك عندما فتح الله له مكة، وقال سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اليوم يوم المرحمة"(الجامع الصحيح للسنن والمسانيد).
وعندما سألهم رسول الله: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟ " قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (أنيس الساري تخريج أحاديث فتح الباري).
وكان صلى الله عليه وسلم عندما يشتد إيذاء المشركين عليه، لا يقابل هذا إلا بالرحمة والعفو، وإذا كان بعض الأنبياء والمرسلين دعوا على المكذبين المعاندين من أقوامهم كنوح وموسى عليهما السلام، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدْعُ أبدا على قومه، ولم يوافق على عقابهم، حتى عندما عرضت بعض الملائكة ذلك، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَا لِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " (صحيح البخاري4/115).
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُدعُ اللَّهَ عَلى المُشركِينَ. قَالَ: "إِني لَم أُبعَث لَعاناً، وَلَكِن بُعِثتُ رَحمَةً" (الجمع بين الصحيحين).
إنه صاحب القلب الرحيم، والخلق العظيم، الذي افترض أنه ما دام بشرا، فإنه قد يصدر عنه تصرفٌ مَّا، قد لا يُرضِي بعض إخوانه، وإذا به صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله عز وجل، أن يجعل هذا التصرف صلاة وزكاة وقربى لأخيه عند الله، يتقرب بها إليه يوم يلقاه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (صحيح مسلم).
وما عُرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آذى إنسانا يوما، وما كان له أبدا أن يفعل ذلك، لكنه يعلمنا نحن خلق الرحمة، ويرسخ في قلوبنا التراحم فيما بيننا، فيُطَيِّب كلٌّ منا قلب أخيه، وإذا أخطأ في حقه يعتذر له ويرضيه، ويرأب صدعه ويداويه، ويشرح صدره ويشفيه، ويدعو له بما يقربه من ربه ويدنيه.
إن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو دين التراحم، والتلاحم، والتواد والتحاب، والتآخي والتصافي، والتآلف والتكاتف، دين يدعو لخير البشرية كلها، بإشاعة الرحمة بين جميع أبنائها، فتهنأ الدنيا بدين محمد، وتنعم بنور الحق، وتسعد بالرحمة تضيء القلوب، وتبيض وجه الحياة.