لسنوات طويلة، كانت كلمة "ذكاء" لا تعني سوى شيء واحد، وهو القدرة على المعالجة العقلية أو ما يعرف بالذكاء الذهني، وعليه خرج معامل الذكاء IQ ليحدد القدرات العقلية، واستمر ذلك إلى ثمانينيات القرن العشرين، وتحديداً في عام 1983، حين طرح العالم هوارد جاردنر نظريته عن الذكاءات المتعددة Multiple Intelligences theory، حيث افترض وجود عدة مناطق للذكاء؛ كالذكاء الحسي والبصري واللغوي والعلاقاتي، ولم تنته القائمة عند هذه المناطق.
والذكاء العلاقاتي، بنوعيه الذاتي والبيني، بمعنى العلاقة مع الذات والآخر، كان النواة التي بني عليها تصوّر لنوع ذاعت شهرته وأهميته من مناطق الذكاء، والذي أطلق عليه "الذكاء الوجداني" Emotional Intelligence، وكان أول من قام بنحت هذا المصطلح هما الباحثان ماير وسالوڤي في عام 1990.
ويرى چون ماير أن المصطلح الذي صاغه قد أسيء استعماله، فلا يعني الذكاء الوجداني أن تكون متفائلا أو ودودا أو توافقيّا هادئا متشجعا، ولا حتى سعيدا، فهذه لا تدخل ضمن تعريف "الذكاء".
وإنما الذكاء الوجداني هو شيء آخر، يمكن تلخيص مفهومه في ثلاث مناطق: وهي
الوعي بالذات، و
الوعي بالآخر، و
الوعي البيني. اقرأ أيضا:
نصائح للتعامل مع الزوجة خلال فترة الحيض؟وهنا العديد من النماذج التي صممت لتنمية مستوى الذكاء الوجداني، والتي سنناقش جوهرها فيما يلي:
* أولا: الوعي الذاتي ويشمل الوعي بالبيئة الداخلية للفرد، وهو على مستويات:
- أولها التفرقة بين الأفكار والمشاعر؛ فنحن كبيئة عربية قد نعبر عن الفكرة بسياق الشعور، كأن تقول: أنا أشعر أنك لا تحب القهوة مثلا، أو أنا أشعر أنني لن أصل في الموعد، وهذه أفكار وليست مشاعر.
- والمستوى التالي هو القدرة على رصد تلك المشاعر وتسميتها، والقدرة على تسمية ما نشعر ونحس به هي مهارة ليست باليسيرة، وهي تساعدنا لما نسميه بالاستبصار الذاتي، بأن يكون الشخص على بصيرة من نفسه وهي مستويات متعددة.
والمشاعر على درجات، فمنها المشاعر البسيطة كالغضب والحب والجوع، ومنها المركب كالغيرة والانتماء.
- والمرحلة التالية هي رصد طيف المشاعر، فكل شعور يمكن تفريقه إلى درجات، فالغضب مثلا يبدأ بالاستياء فالضيق فالغضب فالهياج فالثورة، وله درجات بينية أخرى، والحب مثلاً يبدأ بالإعجاب فالميل فالهوى فالتتيم فالعشق فالعبادة، وله درجات أخرى.
بعد مرحلة الوعي بالمشاعر، تأتي
مرحلة القدرة على التعبير عن هذه المشاعر، وهي مهارة مختلفة، كيف تعبّر عن مشاعرك؟
فالوعي الذاتي إذاً هو فهم الذات: من أنا؟ وبماذا أفكر؟ وما شعوري هنا والآن
- إدارة المشاعر: الخطوة التالية لإدراك المشاعر هي إدارتها Emotional navigation، وهي النقطة التي يكثر السؤال عنها، "
أنا أغضب فأفقد أصدقائي أو علاقاتي أو عملي"، وهكذا بمعرفة أثرها على السلوك والإدراك والاستبصار بعواقبها، فمثلا المشاعر الحزينة تجعلنا أكثر حساسية وقابلية لتهويل الأمور، كما هي تجعلنا أكثر إنتاجا في الجانب الجمالي والفني. ومشاعر الغضب تجعلنا أكثر تسرّعا وأكثر قابلية للخطأ في الحكم على الأمور، وهكذا.
وتعد مشاعرنا البيئة المحفزة التي تنشط فيها الأفكار التلقائية، فالمشاعر السلبية تحفّز إطلاق الأفكار السلبية، والتأثير بين الأفكار السلبية والمشاعر يعمل في الاتجاهين، بمعنى أن كلا منهما يؤثر على الآخر، وهي كذلك تقوم بدفع الفرد إلى اتخاذ سلوك معيّن، ولذا علينا توجيه طاقة المشاعر لصالحنا، لأنها طاقة خام تصلح للبناء والهدم.
تدريب على إدارة المشاعر (تأمل الست ثوان)تكنيك "توقف لست ثوان" يهتم بخطوة إدارة المشاعر، فقبل اتخاذ أي قرار، نتوقف لإدراك نوع المشاعر المسيطرة في الموقف، وهل هي ملائمة لاتخاذ قرار ما أو لا؟ ثم طرح أكثر من بديل للاختيار.
- ثانيا: الوعي بالآخر أو الشعور بالآخر
- يأتي هنا مفهوم
المواجدة/التقمص Empathy، ويعني الشعور بالآخر، ألا تكتفي بأن تضع نفسك مكان الآخر، بل أن تشعر بتجربته من موقفه وظروفه، وهي موهبة ومهارة قابلة للتدريب والتنمية.
وكذلك القدرة على التقاط أمارات من وجوه وتصرفات الآخرين، والاستدلال بها على مشاعرهم والتواصل بما يناسب ذلك معهم.
وتعتبر مهارة المواجدة هي محور مهارات الذكاء الوجداني، لأنها ثمرة ما قبلها، ويعتمد عليها ما بعدها.
- ثالثا: الوعي البيني أو التواصل مع الآخر
يقال إن الكثير يضيع بين مقصود لم يُنطَق ومنطوق لم يقصد، والذكاء الوجداني يعني بعكس ذلك تماماً من حيث مهارات التواصل مع الآخر، وكيفية تبليغ الرسالة المرادة للآخر بشكل كامل.
فالتواصل عبارة عن مرسل ومستجيب ومجال تنتقل فيه الرسالة، وغاية الذكاء الوجداني هو في تنقية جانبك لاستقبال رسائل الآخر، وكذلك بعث رسائلك بلا تشويش من جانبك.
ويأتي هنا مفهوم جديد نسبيا وهو التواصل الرحيم NVC، والذي يهدف إلى تنمية مهارة التواصل مع الآخر، وهو يتكون من القدرة على الوصف المجرد للأحداث والأشياء (أو بمعنى آخر تنقية الرسالة من أي تشويش مثل الأحكام أو التشخيص أو الشخصنة أو التعميم أو التهويل)، ثم توضيح الأفكار التي تتعلّق بالرسالة المنقولة والتي قد تكون موضوعية أو ذاتية، ثم رصد المشاعر الذاتية المراد نقلها للآخر، وتوضيح الاحتياجات إن كان هناك طلب، ثم الطلب الرحيم الذي لا يتضمن أمرا ولا نهيا.
وفي الوقت الذي لا يزال مفهوم الذكاء الوجداني جديداً علينا، فإن العديد من المدارس الأميركية بولاية شيكاغو قد أدرجت منهجا تدريجيا لاكتساب مهارات الذكاء الوجداني يُعرف بالتعليم الوجداني والاجتماعي SEL.
- ففي مرحلة الروضة يكون على الطفل رصد مشاعره وتسميتها.
- في نهاية المرحلة الابتدائية عليه أن يلمح الأمارات غير المنطوقة التي تشير إلى مشاعر الآخرين.
- في المرحلة المتوسطة يكون عليه رصد وتحليل مسببات الضيق والقلق لديهم ومحركاتهم الخاصّة للإنجاز.
- بينما في المرحلة الثانوية يكون عليه إتقان مهارات الاستماع والحوار، بما يساعد على خفض النزاع والصدامات وكيفية التفاوض من أجل ربح الطرفين، وهو ما يعرف بحلول الوسط.
ومن هناك انتشر هذا النوع من التعليم SEL إلى أوروبا وكوريا واليابان وماليزيا وسنغافورة، وقد تم تعميم التوصية به من قبل اليونسكو في 2002.
د. شهاب الدين الهواري- اختصاصي الطب النفسي
*بتصرف يسير
اقرأ أيضا:
أغبياء لكنهم بارعون في تسويق أنفسهم أمام الناس؟! اقرأ أيضا:
ابني بطيء في الكتابة مع أنه ذكي وسريع الاستيعاب.. ما الحل؟