ورد في بعض الأحاديث النبوية وبعض من آثار الصحابة والتابعين من الحلم يحمل ما يحمل درجة عليا من درجات التعامل بالحكمة والموعظة الحسنة.
ومن بين هذه المواقف التي تكشف لك كيف تتحول بأعدائك إلى أن يقفوا معك وفي صفك، ويصبحون أصدق أصدقائك، ما ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" متفق عليه.
فهذا الموقف والمشهد العظيم يحمل بين طيَّاته حالة من حالات الاستثارة التي تؤدي عادة لرد فعل من الغضب الجامح؛ فنرى كيف تصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
موقف آخر لجارية للإمام زين العابدين علي بن سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه، وقد سقط منها إبريقٌ كانت تقدمه لسيدها فتسبب ذلك في أذيته وجرحه، وكان هذا اختبارًا لمدى حلم وحكمة من أصابه الأذى، وهو الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين عليهما السلام المشتهر بالصلاح والعبادة والولاية، وكانت الجارية على قدرٍ من الثبات جعلها تستحضر الآيات القرآنية التي وضعتها بين يدي الإمام علي بن الحسين؛ فوقعت من سيدنا علي بن الإمام الحسين موقعًا ووصلت إلى عقله وقلبه، فاستجاب لها وطبقها تطبيقًا حرفيًّا.
فإذا كان الغيظ هو أول ردٍّ طبيعي على ما حدث من الجارية فإنها أسرعت بتذكيره بقوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، فاستجاب لها رضي الله عنه فكظم غيظه، ثم طمعت أكثر في فضله وحلمه فأكملت له الآية التي تحمل في طياتها درجة أعلى وأرقى، وهو قوله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن استجاب لها فعفا عنها، ثم طمعت أكثر فأتت بآخر الآية التي فيها قوله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فما كان منه رضي الله عنه إلا الوصول إلا أعلى درجات العطاء والإحسان في التعامل مع الخلق؛ فأعتقها حرَّةً لوجه الله تعالى.
وفي حديث النبي الشريف يحكي سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قصة ذلك الأعرابي الذي جذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جذبةً قويَّةً حتى أثَّرت في عُنُقِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما قابله به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مقابلة الإساءة بالإحسان.
قال الإمام النووي: [فِيهِ: احْتِمَالُ الْجَاهِلِينَ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مُقَابَلَتِهِمْ، وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، وَإِعْطَاءُ مَنْ يُتَأَلَّفُ قَلْبَهُ، وَالْعَفْوُ عَنْ مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا بِجَهْلِهِ، وَإِبَاحَةُ الضَّحِكِ عِنْدَ الْأُمُورِ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ. وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَحِلْمُهُ، وَصَفْحُهُ الْجَمِيلُ] .
اقرأ أيضا:
الامتحان الأصعب.. 3 أسئلة تحصل علمها في الدنيا لتجيب عنها في القبر