من جوانب العظَمة في كرم النبي الحبيب الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضاعف هذا البذل والعطاء في مواسم الخير والأزمنة الفاضلة كشهر رمضان، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.. فَلَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» (متفق عليه).
وقد أهدت امرأة ذات يوم إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عباءة منسوجةً، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فلبسها، فرآها عليه رجلٌ مِن الصَّحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسنَ هذه! فاكْسُنِيها!! فما كان من المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن أجاب الرجل وأهداها له مع حاجته إليها وعلم الرجل بذلك!!.
فلمَّا قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه، فقالوا: «ما أحسنتَ حين رأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثمَّ سألتَهُ إيَّاها، وقد عرفتَ أنَّه لا يُسْأَل شيئًا فيمنعه».. وهذا ما عُرِف عنه صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: «رجوتُ بركتَها حين لبسها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ؛ لعلِّي أكفَّن فيها!!» (رواه البخاري).
وصفته السيدة عائشة: «كان خُلُقه القرآن»، وكان ممن قال الله فيهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].
الدلائل على جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، يشهد بذلك له القاصي والداني، وهذه نماذج وشواهد على ذلك:
لقد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المنازل وأشرفها في صفوف أهل الكرم والجود؛ فكان يُعطي بسخاءٍ قلّ أن يُوجد مثله، وقد عبّر أحد الأعراب عن ذلك حينما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى قطيعًا من الأغنام ملأت واديًا بأكمله، فطمع في كرم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسأله أن يعطيه كلّ ما في الوادي! فأعطاه إياه!! فعاد الرجل مستبشرًا إلى قومه وقال: «يَا قَوْمِ؛ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الْفَاقَةَ» (رواه مسلم).
وكان لمثل هذه المواقف أثرٌ بالغٌ في نفوس الأعراب الذين كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم قاصدين بادئ الأمر العودة بالشاة والبعير، والدينار والدرهم، فسرعان ما تنشرح صدورهم لقبول الإسلام والتمسّك به، فكان جوده وكرمه سببًا من أسباب إسلام الكثيرين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر.. لقد بلغ صلوات الله عليه مرتبة الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء، إذ كان يعطي عطاء مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه، ثقةً بعظيم فضل الله، وإيمانًا بأنَّه سبحانه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم.
وعن أنسٌ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا». (رواه مسلم).
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إِذا نَعَتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ كَفًّا، وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً، مَنْ خَالَطَهُ فَعَرَفَهُ أَحَبَّهُ» (رواه الترمذي).
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لَا» (رواه البخاري).
ومن المواقف الدالة على كرمه صلى الله عليه وسلم حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين»، فقال: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ»!!! «وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، وما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها درهم أي: وزعها جميعا، فلم يبق منها درهمًا واحدًا لنفسه !!» (رواه البخاري).
ويصدق فيه صلى الله عليه وسلم قول الشاعر إذ يقول:
تَـراهُ إذا جـئـتَـهُ مـتـهـلـلًا كأنَّك مُعطِيه الذي أنتَ سائلُه!
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ» قَالُوا: «وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» قَالَ: «يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهْوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ» (رواه مسلم).
كثيرًا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنح العطايا يتألّف بها قلوب المسلمين الجدد، ففي غزوة حنين أعطى كلًّا من عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، وأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية رضي الله عنهم عددًا كبيرًا من الإبل، وعند عودته صلى الله عليه وسلم من تلك الغزوة تبعه بعض الأعراب يسألونه، فقال لهم: «أَتَخْشَوْنَ عَلَيَّ الْبُخْلَ؟! فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا [أي: أنعامًا] لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا» (رواه أحمد).
لم يحتفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأموال لنفسه، بل وزعها على أصحابه، فهو يعلم جيدًا أن المال وسيلة وليست غاية، فاستخدمه في تأليف قلوب زعماء مكة وزعماء القبائل من الأعراب؛ ولذا كان كرمه سببًا من أسباب رسوخ الإسلام في قلوبهم، وكان من شدة جوده وشدة حيائه أنه ما سئل عن شيء قط، فقال: لا، حتى لا يخيب سائله أبدًا.
حقًّا نفتقر اليوم إلى التخلق بهذه الصفة الحميدة (الكرم) في تعاملنا، ولله در الشاعر إذ يقول:
أَحْسِنْ إلى الناسِ تستعبدْ قلوبَهُمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
اذكر شاهدَيْن غير ما ذُكر يبينان كرمه صلى الله عليه وسلم .
ولم يكن جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال فقط، بل كان يجود بالعلم في تعليم الناس، وبالوجاهة في الشفاعة للناس، ويجود بالكلمة الطيبة والابتسامة للناس، وبالكرم في التعامل معهم، وغير ذلك ممَّا يطول .
اقرأ أيضا:
قصة النار التي أخبر النبي بظهورهااقرأ أيضا:
الحسن بن علي هكذا تصرف سبط النبي عندما قطع معاوية عطاءه .. أعظم صور اليقين بالله .. تعرف علي القصة