الحكمة هبة ربانية لا يرزقها إلا القليل من الناس، مصداقا لقوله تعالى: " يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (البقرة269)، ولكن الحكمة حينما تنقلب إلى دهاء وخبث، فربما تنقلب الحكمة إلى عدو في هذا الوقت، وتقتل صاحبها.
ومن هذه الأمثلة على انقلاب الحكمة على صاحبها قصة
عبد الله يرث وعبد الله لا يرث.
جاء في
نوادر العرب وأثارهم أن قبيلة اشتهر رجالها بشدة الذكاء، وكان فيهم رجل حكيم قد رزقه الله بثلاثة من الذكور أسماهم كلهم بنفس الاسم (عبدالله) لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولما اشتد به المرض مات بعد أن ترك وصية كتب فيها : عبد الله يرث وعبدالله لا يرث وعبدالله يرث .
فلما رأى الإخوة تلك الوصية احتاروا في أمرهم ، لأنهم لم يدروا لما كتب والدهم تلك الوصية، ومن هو عبدالله الذي لن يرث ، وبعد المشورة والسؤال قرروا أن يذهبوا إلى أحد القضاة الذي اشتهر بالحكمة والذكاء ليبت في أمرهم، وكان هذا القاضي يعيش بقرية بعيدة ، فشدوا رحالهم إليه .
وفي الطريق ، وجدوا رجلا يبحث عن بعير شرد منه. فقال لهم: هل رأيتم جملا ؟ فقال عبدالله الأول هل هو أعور ؟ فقال الرجل نعم ، فقال عبدالله الثاني : هل ذيله أزعر ؟ فقال الرجل بلهفة : نعم ، فقال عبدالله الثالث : هل هو أيضا أعرج ؟ فقال الرجل وهو فرح : نعم ، فقد ظن أنهم وجدوه لأنهم وصفوه وصفًا دقيقًا .
اقرأ أيضا:
تعرف على أهم العقبات التي تعرض لها محمد الفاتح في فتح القسطنطينية.. وكيف تغلب عليها؟ولكنه حين سألهم عنه قالوا لم نره ، فاتهمهم الرجل بسرقة بعيره ، وإلا كيف عرفوه واستطاعوا وصفه بتلك الطريقة الصحيحة ! ، فأقسم الثلاثة أنهم لم يسرقوه ولكنه أصر على أن يشتكيهم للقاضي ، فقالوا له نحن ذاهبون إليه بالفعل فتعال معنا .
وذهب الأربعة معا للقاضي ، ولما دخلا عليه قص كل منهم قصته فقال لهم القاضي استريحوا الآن فأنتم قادمون من سفر طويل، وأمر لهم بغرفة يجلسون فيها ووليمة يتناولونها ، وأمر أحد الخدم بمراقبتهم أثناء ذلك ، فقال أحدهم انتبهوا فهناك من يراقبنا .
وحينما دخل الخادم ومعه الغداء ومن ثم انصرف ، قال عبدالله الأول إن اللحم الذي نتناوله لحم كلب وليس لحم ماعز ، وقال عبدالله الثاني إن المرأة التي أعدت الغذاء حامل في شهرها التاسع ، وقال عبدالله الثالث إن القاضي ابن زنا .
وأثناء تلصص الخادم عليهم ، فسمع كل ما قالوه ونقله إلى القاضي كما قالوه، حيث قال له إن أحدهم يقول أن اللحم الذي قدم إليهم لحم كلب ، فاستدعى القاضي الجزار على الفور وبعد ضغط شديد عليه أقر بأنه ذبح كلب حينما أمر القاضي بالغداء ولم يكن قطيع الشاه قد وصل بعد .
أما عبدالله الذي قال ان من أعدت الغداء امرأة حامل في شهرها التاسع ، فقد تأكد القاضي من صدق ما قال حينما استدعى القاضي المرأة وسألها ، وأما عبدالله الثالث الذي قال عنه انه ابن زنا ، فقد تمنى لو أنه كاذب ودخل على أمه ليتيقن منها ، فنفت الأمر ولكنه شعر أنها تخفي شيئًا ، فأصر عليها ولم يبرح غرفتها حتى اعترفت أنه ابن رجل أخر .
فبهت القاضي وانصرف على الفور ليبت في أمرهم ؛ وهو مندهش كيف علموا عنه ما لم يعلمه عن نفسه! ، ومن ثم جمع القاضي الأخوة وصاحب الجمل لينظر في قضيتهم ، وسألهم القاضي كيف علمتم أن الجمل أعور : فقال عبدالله الأول لأن ذلك الجمل كان يأكل من جانب واحد ، والجمل الأعور يأكل دائمًا من جانب العين التي يرى بها .
فقال القاضي : وكيف علمتهم أن ذيله أذعر ؟ فقال عبدالله الثاني لقد رأيت فضلات الجمل كتل مكومة ، فعلمت أن لا ذيل له لأن الذيل ينثر الفضلات يمينًا وشمالًا أثناء حركته ، فأومأ القاضي برأسه وقال لهم وماذا عن قولكم بأنه أعرج ؟ فقال عبدالله الثالث : عرفت ذلك من أثار خف الجمل بالأرض فقد كانت تبرز في قدم عن الأخرى .
وبعد أن انتهى الإخوة الثلاثة من حديثهم ، اقتنع القاضي بما قالوا وقال لصاحب الجمل : انصرف فإن جملك ليس معهم.
ثم توجه القاضي إليهم بالسؤال عن تلك الأشياء التي قالوها وقت الغداء ؟ فقال لهم : كيف عرفتم أن من أعدت لكم الطعام امرأة حامل في شهرها التاسع ؟
فقال عبد الله الأول لأن الخبز الذي قدم مع وجبة الغذاء كان سميكًا من ناحية ورفيعًا من الناحية الأخرى ، وهذا لا يحدث إلا إذا كان هناك شيء يعيق وصول المرأة للخبز وهي البطن الكبيرة ، لذا عرفت أن من خبزته حامل ، وبعد ذلك سأل القاضي عبدالله الثاني : وكيف عرفتم أن اللحم الذي قدم لكم كان لحم كلب وليس شاه ؟
ففال عبدالله إن لحم الشاه يكون فيه الشحم كاسي اللحم والعظم ، أما في لحم الكلاب فاللحم يكسو الشحم ، لهذا عرفت أنه لحم كلب ، ثم حان دور عبدالله الثالث وكان القاضي ينتظر تلك اللحظة الحاسمة ، فسأله كيف عرفت إني ابن زنا فقال عبدالله لأنك أرسلت من يتجسس علينا وينقل لك أخبارنا وفي العادة لا يفعل ذلك إلا أبناء الزنا ، فتلك خصلة دائمًا ما يتصفون بها.
فقال القاضي حينها أنت لن ترث وأخواتك يرثون ، فقال له ولما أنا ؟ فقال القاضي : لا يعرف ابن الزنا إلا ابن الزنا وأنت ابن زنا ، وبالفعل لما عاد الإخوة إلى أمهم علموا منها أن أحدهم كان ابنًا بالتبني .
خذوا الحكمة من أفواه المجانين
حدث خلاف بين أخ أكبر وأخوته على تقسيم الميراث بعد وفاة أبيهم ، وانتقل النزاع بينهم إلى المحكمه ، وحدث أن الذي فصل في النزاع ، كان رجل يقال عنه أنه مجنون .
وأصل المثل أن رجلًا ثريًا وافته المنية ، في بلد بعيد عن بلده ، وحين وصل خبر وفاته إلى أولاده ، حدد ابنه الأكبر يومًا لأخذ العزاء في أبيه ، لكن إخوته طالبوا بالميراث .
وعندما طالبه اخوته بالميراث ، قال الأخ الأكبر انتظروا حتى ننتهي من مراسم العزاء ، وبعدها لكم ما أردتم ، ولكنهم رفضوا بشدة ، وقالوا له بإصرار بل نقسم التركة اليوم ، فرفض هو الآخر مطلبهم وقال لهم : إنها ستكون مأخذ علينا ، فماذا سيقول الناس عنا ، إذا رأونا نقسم التركة قبل انتهاء العزاء .
وذهب الاخوة فورًا إلى قاضي البلدة ، يشكون من أخاهم الأكبر ، فأرسل له القاضي أمرًا بالحضور أمامه ، فأخذ الأخ الأكبر يفكر كثيرًا فيما عليه أن يفعل ، وأخيرًا اهتدى الأخ الأكبر إلى الذهاب لأحد حكماء البلدة ، ليستشيره وكان معروف عنه أنه صاحب رأي صائب ، فقص الأخ الأكبر على حكيم البلدة موضوع الخلاف بينه وبين أخوته ، وقال له انظر لي مخرجًا من تلك المشكلة .
وقال له حكيم البلدة: أذهب وأسرد قصتك على فلان فلن يفتيك ولن يعطيك الحل غيره ، وكان معروف عن الشخص الذي أشار إليه الحكيم أنه مجنون ، فقال الأخ الأكبر كيف أذهب إليه إنه مجنون ، وبالفعل ذهب الأخ الأكبر إلى الرجل المجنون ، وسرد عليه قصته مع إخوته وخلافه معهم الذي وصل إلى الاحتكام للقضاء ، فقال له الرجل اذهب لإخوتك وقل لهم هل عندكم من يشهد بأن أبي قد مات ؟ ، فقال الأخ الأكبر للرجل : أصبت والله ! كيف لم أفكر في هذا الأمر .
ذهب الأخ الأكبر الى المحكمة ، وقال للقاضي ما قاله ذلك الرجل بالتمام ، فما كان من القاضي إلا أن قال له : إنك محق ، ثم التفت الى الأخوة أصحاب النزاع وقال لهم هل عندكم شهود على وفاة أبيكم ؟ فقالوا له : إن أبانا توفي في بلد بعيد ، وجاء الخبر ولا يوجد شاهد على ذلك .
فقال لهم القاضي : آتو بالشهود ، وظلت القضية معلقة بالمحكمة لمدة سنة ونصف ، وقال لهم أخوهم الأكبر لو كنتم صبرتم أسبوعًا واحدًا كان خيرًا لكم ، وذهب قوله (خذوا الحكمة من أفواه المجانين ).