مدح القرآن الكريم عباد الله الخاشعين الذين ترق قلوبهم ويبكون من خشية الله، فقال عز وجل( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108)
وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) الاسراء).
ومدحه رسول الله صل الله عليه وسلم وحث عليه فقال: “عينان لا تمسهما النار، عين باتت تحرس في سبيل الله وعين بكت من خشية الله”
فالبكاء من خشية الله هو سمت عباد الرحمن ويتحقق به الخشوع والخضوع والانكسار والتذلل بين يديه، والتوبة والإنابة إليه، كما أنها ترقق القلب وتزيد الإيمان، وترقي العبد إلى أعلى مقامات الولاية والقرب من الله عز وجل. ولقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في الحديث عن البكاء، فمرة يستنكر على المشركين اشتغالهم بالعجب والضحك، بدل البكاء، فيقول: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون. وتارة يبين حال الصالحين ويثني عليهم قائلا: إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا ، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
فضل البكاء من خشية الله تعالى
1- محبة الله تعالى: لقوله صلى الله عليه وسلم: “ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله” 4.
2- رقة القلب وزيادة الإيمان والخشوع، لقوله تعالى: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.
3- الاستظلال بظل العرش يوم القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” 5.
4- الكينونة مع الذين أنعم الله عليهم وهداهم واجتباهم لقوله تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا، إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا 6.
5- العلم بالله وخشيته، لقوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا” 7، وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ويخرون للأذقان يبكون: (هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم، وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا، أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتورع ويذل) 8.
6-
النجاة من النار: لقوله صل الله عليه وسلم: “عينان لا تمسهما النار، عين باتت تحرس في سبيل الله وعين بكت من خشية الله” وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يلج النار رجل بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن إلى الضرع”.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة بالمدينة فقام علينا فقال: “إني رأيت البارحة عجبا… ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل، فاستنقذته من ذلك”.
7- نيل بركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة، لقوله: “طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته” (طوبى: شجرة في الجنة).
هكذا كان بكاء النبي الكريم والسلف الصالح
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس
بكاء من خشية الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: “قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “اقرأ علي القرآن” قلت: يارسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: “إني أحب أن أسمعه من غيري” فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: “فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا” قال: “حسبك الآن” فالتفت، فإذا عيناه تذرفان”.
وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: “أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان”.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان رجلا بكّاء، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: “لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي، قال: “مروا أبا بكر فليصل بالناس”. قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه” (وفي رواية: “إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس”).
وعن عرفجة السلمي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: (ابكوا ، فإن لم تبكوا، فتباكوا).
عن عبد الله بن عيسى قال: (كان في وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء).
*وعن هانئ مولى عثمان رضي الله عنهما قال: (كان عثمان إذا قام على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة فلا تبكي، وتبكي من هذا! قال: إن رسول الله صلى الله قال: “القبر أول منازل الآخرة، فإن نجى منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه”).
و عن أبي صالح قال: قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن ضمرة: صف لي عليا (…) قال: (أما إذن، فإنه والله كان (…) يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، (…) وأشهد بالله، لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سجوفه، وغارب نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا، أبي تعرضت، أم لي تشوفت، هيهات هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير)، بحسب الباحت الكاتب المغربي محمد فاضيلي.
و عن زيد بن وهب أن عبد الله (بن مسعود رضي الله عنه) بكى حتى رأيته أخذ كفه من دموعه.
وعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: (بات أبو الدرداء الليلة يصلي، فجعل يبكي ويقول: اللهم أحسنت خلقي، فأحسن خلقي، حتى أصبح).
دخل سعد على سلمان يعوده، قال: (فبكى سلمان، فقال له سعد: يا أبا عبد الله، ما يبكيك؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وترد عليه الحوض، وتلقى أصحابك، قال: فقال سلمان، أما إني لم أبك جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا قال: “لتكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب” وحولي هذه الوسائد. قال: وإنما حوله إنجانة وجفنة ومطهرة) 23.
و عن سلمة بن حجل أن أبا هريرة رضي الله عنه بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: (أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري وقلة زادي وإني أمسيت في صعود مهبطة على جنة ونار، ولا أدري إلى أيهما يؤخذ بي) 24.
* قال عبد الأعلى التيمي: (إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق أن لا يكون أوتي منه علما ينفعه) 25.
* خطب أبو موسى الأشعري بالبصرة، فقال: (يا أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع ثم يبكون الدماء، حتى لو أرسلت فيها السفن لأبحرت) 26.
* عبد الله بن رواحة بكى فبكت امرأته، فقال: (ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت لبكائك، قال: إني انبئت أني وارد ولم أنبأ أني صادر) 27.
* عامر بن عبد قيس رضي الله عنه لما احتضر جعل يبكي، فقالوا: (ما يبكيك يا عامر؟ قال: ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكني أبكي على ظمإ الهواجر وقيام الشتاء) 28.
وسائل معينة على البكاء:
* استشعار عظمة الله تعالى والخوف منه.
* التفكر في حال النفس وتقصيرها في عبادة الله تعالى وجرأتها على معصيته.
* التفكر في الآخرة وأهوالها.
* الخوف من سوء الخاتمة.
* قراءة القرآن الكريم وتدبر معانيه.
* سماع المواعظ.
* قراءة كتب الرقاق.
* معرفة أحوال البكائين من خشية الله تعالى.
* معرفة فضل البكاء من خشية الله تعالى.
* الدعاء بأن يرزقه الله تعالى عينا دامعة وقلبا خاشعا، وأن يتعود من قسوة القلب وجمود العين.