ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية، يقول: "هل يجوز قراءة القرآن الكريم وكتابته بغير اللغة العربية؟".
وأجابت دار الإفتاء بأن العلماء قد بحثوا حكم ترجمة القرآن الكريم وبيان جوازها من عدمه وانتهوا إلى فريقين:
الفريق الأول: يرى عدم جواز ترجمة القرآن الكريم إلى لغة أخرى، واستدلوا بعدد من الأدلة، من أهمها: استحالة ذلك؛ إذ ليس في مقدور البشر الإتيان بمثل القرآن في نظمه، وبراعة أسلوبه ودقة تصويره وحسن بيانه، وهو مما تحدى الله به الإنس والجن؛ إذ يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88] فالترجمة مهما بلغت من الدقة والإتقان لن تأتي بمثل القرآن، ولعل المترجَم إلى لغتهم يكتفون بالنص المترجم -مع ما فيه من قصور- عن تعلم القرآن العربي مما يبعدهم عن جمال معاني القرآن في لغته الأم، مع الخوف من أن تذهب الترجمة بعيدًا عن مقصد القرآن أصلًا فتعد تحريفًا وتبديلًا له والعياذ بالله.
غير أن الفريق الآخر ارتأى –وهو الرأي الذي نرجحه- أن ذلك كله لا ينتهض لمنع ترجمة القرآن الكريم شرعًا، خاصة وأن أحدًا لم يدِّع في الترجمة أنها تماثل القرآن الكريم ولا أنها كلام الله قطعًا، بل هي عبارة عن تفسير لكلام الله بلغة غير العربية، وإذا كان التفسير عبارة عن كشف معاني القرآن الكريم التي يفهمها المفسر بحسب طاقته، ولا يقطع المفسر ولا أحد غيره بأن ما وصل إليه هو كلمة الفصل في معنى الآيات، فكذلك يكون الشأن في ترجمة القرآن الكريم إذا اعتمدنا أنها ليست لنفس الألفاظ كترجمة حرفية وإنما للمعنى المتحصل من الآية، ولذلك فالسبيل الأقوم لذلك أن تعقد لجنة من علماء التفسير وعلماء التربية ونحوهم من المختصين؛ فيعتمدون تفسيرًا معينًا للقرآن الكريم يناسب الفئة التي تقصد بتوجيه هذه الترجمة لهم، وتقوم لجنة أخرى من المختصين بشأن الترجمة؛ فتترجم ما اعتمدته اللجنة الأولى إلى اللغة المراد الترجمة لها، هذا بشأن القرآن الكريم وحكم ترجمته.
اقرأ أيضا:
هل جاء في الإسلام أن صوت المرأة عورة؟رأي مجمع البحوث الإسلامية والمجامع الفقهية
وقالت "الإفتاء"، إن التوجه في مجمع البحوث الإسلامية بمصر وغيره من المجامع في خارجها هو منع هذه الكتابة، كما ورد في قرارات الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية برقم 67، وذلك نابع من عدة تخوفات، منها: الخوف على المصحف الشريف من التحريف نتيجة اختلاف اصطلاحات الكتابة من كاتب لآخر أو من هيئة لأخرى، ونتيجة لكون هذه اللغات الأجنبية تتطور وتتغير وهذا مظنة إدخال التحريف على القرآن الكريم، ومنها الظن أن هذا يُضعِف الإقبالَ على تعلم العربية وبالتالي تعلم أحكام القرآن الكريم في تلاوته وتشريعاته، وأنه يجب الحفاظ على ما تركه السلف الصالح –الصحابة فمَن بعدهم- مِن كتابة المصحف الشريف بالعربية مع وجود الأعاجم والدواعي إلى هذه الكتابة، ولكنها مع ذلك لم تُفعَل في عهودهم.
ويُدَعِّم هذا الاتجاهُ رأيَه بمثل ميل الزركشي في "البرهان" إلى منع ذلك، ونقل السيوطي لذلك في "الإتقان" بدون نقضه، فكأنه يوافق عليه، ومنع الشيخ رشيد رضا لذلك أيضًا في "المنار"، وقالوا: إن ابن حجر الهيتمي في "فتاويه" ذهب إلى تحريم كتابة القرآن بالعجمية، ولو كان لمصلحة التعليم، وقالوا إنه نسبه للإمام مالك.
وقد سبق إلى القول بالمنع بعض العلماء والكاتبين والباحثين، منهم الشيخ حسين والي مسئول قسم الفتوى بالأزهر فيما نشره في مجلة "الأزهر" في مقالة له بعنوان: "كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية" نشرت سنة 1355هـ- 1936م، ونحا فيها إلى المنع؛ معللًا بأن بعض الحروف العربية لا تتأدى باللغات الأخرى، وكذلك الأستاذ محمود أبو دقيقة في مقالة له في مجلة "نور الإسلام" صادرة في عام 1351هـ بعنوان "كلمة في ترجمة القرآن الكريم".
وتابعت "الإفتاء": "ولكننا نرى أن الأمر أهون من ذلك: فإن الأمر من ناحية ليس مجمعًا عليه بين العلماء، فـالزركشي نفسه فيما نقله عنه السيوطي في "الإتقان" وإن رجح المنع إلا أنه نقل عنه أنه قال: [هذا مما لم أرَ فيه كلامًا لأحد من العلماء، ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه مَن يقرؤه بالعربية] اهـ.
وكذلك يقول الزرقاني في "مناهل العرفان": [ونسترعي نظرك إلى أمور مهمة، أولها أن علماءنا حظروا كتابة القرآن بحروف غير عربية، وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب الآيات القرآنية إذا كتبت بالحروف العربية كي لا يقع إخلال وتحريف في لفظه فيتبعهما تغير وفساد في معناه] اهـ.
وكذلك المنصوص عند الحنفية جواز قراءة وكتابة القرآن بغير العربية للعاجز عنها بشروط، وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية؛ فإن عندهم تجوز قراءة وكتابة القرآن الكريم بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى؛ ففي"النهاية والدراية": أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية، فكتب، فكانوا يقرءون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم، وفي "النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية" ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقًا.
وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن، بل يعتبر تفسيرًا له.
وأشارت "الإفتاء" إلى رأي الأستاذ رشيد رضا الذي ينقلون عنه المنع يقول في نفس السياق: [إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك، ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها، ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة، وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية.
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات، وكونها تقدر بقدرها، فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه ما داموا في حاجة إليه، ثم ليجتهدوا في تعليم مَن يَحسُن إسلامُهم الخطَّ العربي بعد ذلك؛ ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين.
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم. فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين، وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا] اهـ. "مجلة المنار".
الترجمة ليست قرآنًا
ومن ناحية أخرى، أوضحت "الإفتاء"، أن "الذي نحن بصدده الآن ليست هي مسألة ترجمة لألفاظ القرآن الكريم (translation)، وقد أجمع المسلمون على أن الترجمة ليست قرآنًا، بل هي تفسير للقرآن الكريم، وإنما ما نحن بصدده هي مسألة حكاية صوتية لحروف اللغة العربية التي نـزل بها القرآن الكريم (transliteration)، وهي مسألة علمية بحتة تقوم بها الشعوب والمؤسسات لأغراض مختلفة؛ علمية وغيرها، وقد حدثت في الأندلس عند فتح المسلمين لها، ويقوم بها العالم شرقًا وغربًا لسبب أو لآخر، وستتم بنا –معشر المسلمين- أو بغيرنا، فإن الحاجة عند الآخر قائمة، وأسبابه متوافرة لذلك، سواء منهم الراغب في الإسلام وغيره، وهناك تجربة ناجحة في بعض الفضائيات المحترمة التي تأتي بالتلاوة القرآنية ويظهر معها على الشاشة النصُّ العربيُّ للتلاوة المسموعة مع حكاية صوتية لحروف المسموع".
وعليه، انتهت "الإفتاء" إلى أن "القول بجواز ذلك مع وضع الضوابط الكفيلة بحماية اللفظ القرآني من التحريف والتبديل قدر الطاقة هو الأنسب في رأينا، خاصةً مع الطفرة الاتصالاتية والمعلوماتية القائمة في العالم اليوم.
وقالت إن "هذه الضوابط تتمثل في عدم طبع هذه الحكايات الصوتية مستقلة عن المصحف الشريف، بل يجب جعلها مع نص المصحف الشريف الشائع المتداول المعروف، والتنبيه في مقدمة هذا العمل على أمور من مثل كون هذا النص هو رواية فلان -كـ"حفص عن عاصم الكوفي" مثلًا-، وذلك كما يكتب في مقدمة أو مؤخرة طبعات المصحف الشريف، حيث إن قارئ هذا العمل يكون غالبًا على جهل كبير بتفاصيل القراءات القرآنية، وربما يصطدم بقراءة أخرى غير التي بين يديه، كقراءات المغاربة أو غيرهم ممن يقرءون بقراءة المدنيين أو البصريين، فربما أحدث له ذلك تشويشًا.
ومنها قيام لجنة علمية مختصة مشتركة ذات مصداقية من أهل اللسانين العربي والآخر الذي يتم حكاية ألفاظ القرآن الكريم به بوضع مفتاح للعمل للوصول إلى أدق عمل علمي في هذا الصدد يمكن أن يوفر النطق الصحيح للحرف العربي القرآني، بل وطريقة أدائه الصوتي أيضًا، بحيث يعطي للمجامع الفقهية والأجهزة المعنية الطمأنينة للنتاج العلمي الذي سيطرح على الجمهور من الباحثين أو المثقفين أو غيرهم من المحتاجين إلى هذا العمل.
وهذا من شأنه الحفاظ على قدسية القرآن الكريم والمصحف الشريف، وفي نفس الوقت تلبية حاجات بني آدم في المعرفة بعامة، وفي الدخول في دين الله الحنيف بخاصة، وكلاهما غرض ورسالة لأمة الدعوة ومحبوب للرب سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.