دار الافتاء المصرية ردت علي هذا التساؤل بالقول : إنَّ الله عزَّ وجلَّ امتنَّ على عباده بأن جعل صبرهم من غير اعتراض على ما يصيبهم من أذًى سببًا لتكفير ذنوبهم وخطاياهم، فقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ وَلاَ حزنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» أخرجه البخاري في "صحيحه".
وعوبحسب الفتوي المنشورة علي الصفحة الرسمية لدار الافتاء علي "فيس بوك " فقد روي أنَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَقَالَ: «كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ»، أخرجه أحمد في "مسنده". فالمريض محلٌّ للعناية الإلهية بصبره على ما نزل به ورضاه بقضاء الله تعالى فيه، وأمره بذلك كله خير، والله تعالى أعلى وأعلم.
من ناحية أخري ردت الدار علي تساؤل نصه :من المعروف في الفقه الإسلامي أن الابتلاء من أسباب التيسير، فما حدود هذا الابتلاء الذي يَحصُل به الترخيص؟
بالقول :قاعدة الابتلاء وعلاقته بالتيسير والترخيص من القواعد المهمة التي ينبغي على الفقيه أن ينتبه إليها؛ إذ إن الابتلاء قد ينقل الحكم التكليفي من دائرة العزيمة إلى دائرة الرخصة، فيصير ما كان محظورًا مسموحًا في فعله، وما كان واجبًا مسموحًا في تركه، وما ذلك إلا لكون الابتلاء يورث حرجًا أو مشقة تستوجب ذلك التيسير والترخيص،
واضافت الدار في الفتوي المنشورة علي بوابتها الاليكترونية :بل إن الابتلاء من أكثر أسباب التيسير مساسًا للتفريع الفقهي، فأثره لا يقتصر على باب معيَّن من أبواب الفقه دون غيره، بل هو في الغالب شامل لمجموع أبواب الفقه، وإن كان التصريح بالتعليل به قد كثر فيما يتعلق بأمور العبادات، خاصة فيما يتعلق بالطهارة وإزالة النجاسة، غير أن التأمل في الفروع الفقهية يتضح منه شمول أثره لغير ذلك؛ يقول الإمام السيوطي في "الأشباه" (ص: 80، ط. دار الكتب) بعد أن ذكر الكثير من الفروع الفقهية الداخلة في قضية الابتلاء: [فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه] اهـ.
وتابعت الناظر فيما كتبه الفقهاء يمكن أن يقسِّم الابتلاء إلى عام وخاص لكلٍ منهما ضوابطه، وإن كان الأثر الفقهي المترتب على كل منهما واحدفالأول منهما وهو الابتلاء العام معناه: اشتداد حاجة أكثر المكلفين أو فئة معينة منهم للتيسير في أمر شائع متكرر يتعسر عليهم تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّفوا اجتنابه لوجدوا في ذلك مشقة غير معتادة؛ يقول الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص: 109، ط. مؤسسة الرسالة): [ومعنى عموم البلوى شمول التكليف لجميع المكلفين أو أكثرهم عملًا.
وبدوره فسَّر الإمام علاء الدين البخاري في "كشف الأسرار" (3/ 16، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة) ما يعم به البلوى بأنه: [ما يمس الحاجة إليه في عموم الأحوال] ا
وكذلك فسَّره شمس الدين الأصفهاني في "بيان المختصر" (1/ 746، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة) بأنه: [ما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصًا بواحد دون آخر وقال الكمال بن الهمام في "التحرير مع شرحه" (2/ 295، ط. دار الفكر) مفسِّرًا ما تعم به البلوى أنه: [ما يحتاج إليه الكل حاجة متأكدة مع كثرة تكرره ـ
ودللت الفتوي علي مثال ما يشق تركه للحاجة إليه: النوم، فهو حالة متكررة لكل الناس ولا تختص بفرد واحد، ومن الواضح بالمشاهدة أن اجتناب النوم مطلقًا يتعذر على عموم الناس لشدة احتياجهم له، فلو كُلِّفوا اجتنابه مطلقًا لكان في ذلك مشقة خارجة عن المعتاد لا يمكنهم احتمالها، وبهذا يتضح أن النوم من الأمور التي تعم بها البلوى،
واستدركت الفتوي بالقول وذلك مع ملاحظة أن الأصل في الشريعة تحريم كل ما يؤدي لغياب العقل أو فقد الوعي -كالمسكرات والمخدِّرات ونحوها– لكن لما عمت بلوى الناس بالاحتياج إلى النوم رغم أنه وسيلة لتغييب العقل كان مستثنى على خلاف ذلك الأصل؛ لأن التكليف باجتنابه حرج وتكليف بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ،.. وذكر منهم: النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
ومضت الفتوي للقول مثال ما يتعذر الاحتراز عنه: الدم اليسير المتبقي في لحم الذبيحة بعد تذكيتها، فإنه يشق على الناس الاحتراز عنه، ولا يجب غسله قبل طهو اللحم ولا بعده، رغم أنه جزء منفصل من الدم المسفوح المتدفق جريانه من الذبيحة، والذي هو نجس بالإجماع، ولكن لما كان هذا الدم المنفصل قليلًا يشق الاحتراز عنه، مع حاجة أكثر المكلفين للتغذي باللحم؛ عمت به البلوى، وكان معفوًّا عنه، بخلاف ما لو قصده إنسان فتعمد تجميع الدماء القليلة المعفو عنها وتناولها مفردة؛ فإنه يحرم عليه إذ لا بلوى فيه.
- أما النوع الثاني من أنواع الابتلاءفهو الابتلاء الخاص، وهو اشتداد حاجة المكلف للتيسير في أمر متكرر يتعسر عليه -بصورة خاصة- تركه أو الاحتراز عنه، بحيث لو كُلِّف اجتنابه لوجد في ذلك مشقة غير معتادة، وذلك نحو أن يبتلى شخص بمرض كسلس البول مثلًا، فإنه يشق عليه تجديد الوضوء لأداء الصلاة كلما نزلت منه قطرة بول، لصعوبة الاحتراز والعجز عن التحكم مع كثرة خروج الحدث، فتشتد حينئذ حاجة المكلف لأداء الصلاة مع التيسير في أحكام الطهارة، فهذه بلوى خاصة لا يجدها الشخص الصحيح، وإنما يبتلى بها بعض المكلفين بصورة خاصة، قد تتفاوت مشقتها من فرد إلى آخر، مما يحتم على المفتي دراسة العناصر المختلفة المحيطة بالحادثة ثم إصدار فتوى خاصة لكل فرد بحسب بلواه، بخلاف ما يصدره المفتي من أحكام عامة في عموم البلوى.
وقدمت الفتوي تعريف الابتلاء بنوعيه وأمثلة كل منهما يصح استخلاص ما يضبط بها عموم البلوى وخصوصها، فالشيء الذي تعم به البلوى لا بد أن يتوافر فيه ضابطان:
- أولهما: شمول الأغلبية: فقضية عموم البلوى تتميز بهذا الضابط عن قضية خصوص البلوى؛ وذلك لأن في العموم ينظر إلى الحالة الغالبة لجميع أفراد المكلفين أو أكثرهم أو فئة معينة منهم، ويثبت الترخيص في هذه الحالة دون حاجة إلى استفتاء خاص؛ يقول الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 59، ط. دار إحياء التراث العربي): [الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة، كالسَّلَم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق مَن لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء].
بينما في خصوص البلوى يُنظَر إلى حالة كل فرد على حدة وإلى ملابسات الواقعة التي يُستفْتى فيها، فتتعدد بذلك الفتاوى وتختلف تبعًا لاختلاف أحوال المكلفين ووقائعهم.
وواشارت الدار إلي أن عموم البلوى قائمة على التفرقة بين فقه الأفراد وبين فقه الأمة أو الجماعة، وقد ورد ما يؤيد هذه التفرقة في نصوص الشريعة وأصولها وأحكامها، ومن صور التفرقة بين أحكام الفرد والجماعة ما بحثه الأصوليون في كتبهم من التفرقة بين الواجب العيني (الفردي) والواجب الكِفائي (الجماعي).
وهذه التفرقة تعتبر واحدة من أهم مسائل أصول الفقه، والواقع أنه كما نظر الشارع الحكيم إلى حالة الجماعة في مسألة الوجوب الكفائي بحيث أوجب إقامة أمر ما على جماعة المكلفين لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم، فكذلك نظر إلى حالتهم في قضية عموم البلوى بحيث خفَّف عنهم ما لو أوجبه على كل فرد منهم لشق على أكثرهم وأوقعهم في الحرج، نعم، قد يوجد أشخاص لا يشق عليهم إقامة الواجب الكفائي أو عدم تخفيف ما تعم به البلوى، لكن مثل هؤلاء يمثلون الأقلية، والقاعدة أن العبرة للغالب الشائع لا للقليل النادر، وتغليب حكم الأكثرية أصل أصيل وارد في نصوص الكتاب والسنة في مواضع متعددة ومواضيع متنوعة، فمن ذلك: أن الخمر وإن كانت تشتمل على بعض المنافع، إلا أنها تعد منافع قليلة مستهلكة في جانب الأضرار الكثيرة الغالب وقوعها من جراء تناول الخمر وتداولها، ويستأنس لهذا المعنى بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قيل له: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَث» متفق عليه.
اقرأ أيضا:
ما حدود عورة المرأة أمام النساء؟و مما سبق يتبين أن شيوع الأمر وشموله لغالبية المكلفين أو لغالبية فئة معينة منهم من الأمور المؤثِّرة في الأحكام الشرعية، وكذلك من الأمور التي يتوقف عليها صحة وصف النازلة بأنها تعم بها البلوى.
- وثانيهما: التَّكرار وكثرة الوقوع: فقد يُكلَّف الإنسان بشيء لا يشق عليه الإتيان به مرة أو مرات متكررة في فترات متباعدة، لكن إذا كُلِّف الإتيان به مرارًا متكررة في فترات متقاربة يجده شاقًا عليه مهما كانت بساطته، ومن هنا كان التكرار وكثرة الوقوع ضابط من ضوابط عموم البلوى؛ لأن ما قلَّ تكراره ولو شمل جميع المكلفين لا تعم به البلوى لانعدام المشقة في فعله.
والتكرار الذي تتوقف عليه قضية عموم البلوى هو التكرار العام على المستوى الجماعي؛ كتكرار السفر في إباحة الفطر والجمع والقصر، رغم أن الغالب على حال كل مكلف بمفرده هو قلة حاجته لتكرار السفر، لكن لما كان الغالب أيضًا تكرار حصول السفر بصورة عامة يومية، نزلت الحاجة العامة لكل الأمة منزلة الحاجة الخاصة لكل فرد منها، ففقه الأمة أو فقه الجماعة ينظر إلى المكلفين باعتبارهم شخصًا واحدًا، ومن هنا كان تكرار حصول الحادثة لهذا الشخص المعنوي يُعد مما تعم به البلوى.
وخلصت الدار في النهاية للقول إن قضية عموم البلوى وخصوصها تندرج تحت قاعدة كبرى هي قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وهو ما أردناه من قولنا: إن الأثر الفقهي المترتب على عموم البلوى وخصوصها واحد، فإذا صحت ضوابط الابتلاء جاز الترخيص، والذي قد يكون بإباحة المحرَّم: كما في الضبة الصغيرة من فضةٍ للحاجة، وكلبس الحرير لمن به حِكَّة في جلده. وقد يكون بتقديم ما حقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، وكما في الجمع بين الصلاتين في السفر.