ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية من امرأة تقول: "أصرت ابنتي التي تبلغ من العمر أحد عشر عامًا -والتي لم تدرك المحيض بعد- أن أرسل لسيادتكم طالبًا فتوى شرعية في ما تعرضت له بالأمس في مدرستها؛ حيث قامت مجموعة كبيرة من الأولاد والبنات الزملاء في صفها الدراسي وكلهم في مثل عمرها بالتجمع لتناول الطعام حوالي عشرين طالبًا وطالبة، وجاء جلوسها وسط هذه المجموعة بجانب أحد زملائها، فاتهمتها إحدى زميلاتها بأنها ترتكب حرامًا؛ بأن سمحت لنفسها بالجلوس بجانب أحد الزملاء وبينهما فاصل يقارب النصف متر حسب وصفها في وسط هذا الحشد الكبير لتناول الطعام.
أثر ذلك الاتهام في نفس ابنتي تأثيرًا شديدًا، وهي التي نرشدها منذ صغرها إلى الحلال والحرام، حتى ولو لم يكن مطلوبًا منها بعد حتى تعتاد عليه، وهي تجتهد حقا للالتزام به في كل أمورها وتفتخر بذلك، وبأنها تنسب لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك أجد من حقها أن أرسل راجيًا سيادتكم إفادتنا بفتوى شرعية في هذا الأمر حتى تهدأ نفوس الأختين هي وصديقتها في أسرع وقت إن شاء الله. ولسيادتكم جزيل الشكر والامتنان".
وأجابت أمانة الفتوى بأن الذي عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا أن مجرد وجود النساء مع الرجال في مكان واحد ليس حرامًا في ذاته، وأن الحرمة إنما هي فيما إذا كانت الهيئة الاجتماعية مخالفة للشرع الشريف؛ كأن يكون الاجتماع على منكر أو لمنكر، أو يكون فيه خلوة محرَّمة.
ونص أهل العلم على أن الاختلاط المحرم في ذاته إنما هو التلاصق والتلامس لا مجرد اجتماع الرجال مع النساء في مكان واحد.
ودللت بماورد في السنة النبوية الشريفة، ففي "الصحيحين" عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "لَمّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيدٍ السّاعِدِيُّ دَعا النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وأَصحابَه، فما صَنَعَ لهم طَعامًا ولا قَرَّبَه إليهم إلا امرَأَتُه أُمُّ أسيدٍ"، وترجم له الإمام البخاري بقوله: "باب قيام المرأة على الرجال في العُرس وخدمتهم بالنفس".
قال الإمام القرطبي في "التفسير" (9/ 68): [قال علماؤنا: فيه جواز خدمة العروسِ زوجَها وأصحابَه في عُرسها] اهـ.
وأضافت: "فلا مانع من وجود الرجل مع المرأة في مكان واحد إذا أُمِنَت الريبة وانتفت الخلوة، وهي: أن ينفرد الرجل مع المرأة في مكان بحيث لا يمكن الدخول عليهما".
وقال الإمام ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (2/ 181) في شرح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إيّاكم والدُّخُولَ على النِّساءِ»: [مَخصُوصٌ بغَيرِ المَحارِم وعامٌّ بالنِّسبةِ إلى غَيرِهِنّ، ولا بد مِن اعتبارِ أمرٍ آخَرَ، وهو أن يَكُونَ الدُّخُولُ مُقتَضِيًا للخَلوةِ، أَمّا إذا لم يَقتَضِ ذلك فلا يَمْتَنِعُ] اهـ.
وأشارت إلى أنه "ليس كل انفرادٍ واختلاءٍ يُعَدُّ خلوةً محرمةً؛ فقد روى الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءَتِ امرَأَةٌ مِنَ الأَنْصارِ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فخَلا بها، فقالَ: «واللهِ إنَّكنَّ لأَحَبُّ النّاسِ إليَّ»، وفي بعض الروايات: "فخَلا بها في بَعض الطُّرُق أو في بَعض السِّكَك"، وبَوَّب الإمامُ البخاري على ذلك بقوله: "باب ما يَجُوزُ أَن يَخلُوَ الرَّجُلُ بالمَرأَةِ عندَ النّاسِ".
وضابط الخلوة المحرَّمة كما قال الشيخ الشبراملسي الشافعي في "حاشيته على نهاية المحتاج" (7/ 163): [اجتماعٌ لا تُؤمَن معه الرِّيبَة عادةً، بخلاف ما لو قُطِع بانتفائها عادةً فلا يُعدُّ خلوة] اهـ.
وأما بخصوص مشاركة الرجال للنساء في تناول الطعام فقد جاء ذلك في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة أبي طَلحةَ الأنصاري في إطعامه الضيف: أنهما جعلا يُرِيانِه أنهما يأكلان، فباتا طاويَين، وفي رواية ابن أبي الدنيا في قِرى الضيف من حديث أنس رضي الله عنه ما ظاهره أنهم اجتمعوا للأكل مِن طَبَق واحد؛ فقد جاء في هذه الرواية: أن الرجل قال لزوجته: أَثرِدِي هذا القُرصَ وآدِمِيه بسَمنٍ ثم قَرِّبيه، وأمُري الخادمَ يُطفِئ السراجَ، وجَعَلَت تَتَلَمَّظُ هي وهو حتى رأى الضيفُ أنهما يأكلان. ولذلك قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: [هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة. ومنها الاحتيال في إكرام الضيف إذا كان يمتنع منه رفقًا بأهل المنزل؛ لقوله: أطفئي السراج وأريه أنا نأكل؛ فإنه لو رأى قلة الطعام، وأنهما لا يأكلان معه لامتنع من الأكل. وقد قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك: «قد عَجِبَ اللهُ مِن صَنِيعِكما بضَيفِكما اللَّيلةَ»، ونزل فيهما قولُه تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9] اهـ بتصرف.
وكان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُبَلِّغنَ العِلمَ ويَنشُرنَ الدِّينَ. وهذه دواوينُ السُّنةِ في الرواية عنهن، بل وعن الطبقات من النساء بعدهن ممن روى عنهن الرجال وحملوا عنهن العلم، وقد ترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني وحدَه في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة" لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف (1543) امرأة، منهن الفقيهات والمحدِّثات والأديبات.
وكانت المرأة المسلمة تشارك الرجال في الحياة الاجتماعية العامة مع التزامها بلبسها الشرعي ومحافظتها على حدود الإسلام وآدابه؛ حتى إن من النساء الصحابيات من تولت الحِسبة، ومن ذلك ما رواه الطبراني في المعجم الكبير بسندٍ رجالُه ثقات عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم قال: رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سَوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وعلى ذلك فلا يَسَع أحدًا أن يُنكِر هذا الواقعَ الثابتَ في السنة النبوية الشريفة والتأريخ الإسلامي، ولا يصح جعل التقاليد والعادات الموروثة في زمان أو مكان معين حاكمةً على الدِّين والشرع، بل الشرع يعلو ولا يُعلى عليه، ولا يجوز لمن سلك طريقة في الورع أن يُلزِم الناسَ بها أو يحملهم عليها أو يشدد ويضيِّق فيما جعل الله لهم فيه يُسرًا وسعة.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فتناول النساء للطعام مع الرجال أمر جائز شرعًا طالما كان في إطار الآداب الشرعية المرعية، وحفاظ النساء على لباسهن الشرعي، وطالما أنه لا تلاصق بين الجنسين، ولا خروج عن التعامل أو الكلام بالمعروف، فإذا حصل ذلك بين البنات والبنين غير المكلفين فهو أدعى للجواز، مع الحرص على تعريفهم بالآداب الشرعية وتعويدهم على التأدب بآداب الإسلام ليألفوها إذا بلغوا.
اقرأ أيضا:
هل جاء في الإسلام أن صوت المرأة عورة؟