نسمع بعض الخطباء يقول في آخر الخطبة الثانية: "واعلموا أنَّ الله صلَّى وسلَّمَ عَلَى نبِيِّه قديما، فقال تعالى ولم يزل قائلًا عليمًا، وآمرًا حكيمًا؛ تنبيهًا لكم وتعليمًا، وتشريفًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}"، فهل يجوز ذلك؟
قال مركز الفتوى بإسلام ويب: لا نرى غلطًا في معنى هذه العبارات، والقِدَمُ المذكور في عبارة: (اعلموا أنَّ الله صلَّى وسلَّمَ عَلَى نبِيِّه قديما) لا يصحّ أن يكون معناه قدم عين القرآن، أو قوله تعالى: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب:56].
وإنما يحمل على أن صلاة الله وملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم سابقة على صلاة من سواهم عليه، أو سابقة على وجود النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما يدلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. رواه أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم.
قال ابن رجب في «لطائف المعارف»: المقصود من هذا الحديث أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مذكورة معروفة من قبل أن يخلقه الله، ويخرجه إلى دار الدنيا حيًّا، وأن ذلك كان مكتوبًا في أمّ الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام ... ولا ريب أن علم الله عز وجل قديم أزليّ، لم يزل عالمًا بما يحدثه من مخلوقاته ..
المركز قال في فتوى سابقة: لم ينقل عن إمام من أئمة السلف، القول بأن القرآن قديم العين، بمعنى أنه تكلم الله به في الأزل!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أحدا من السلف، والأئمة لم يقل: إن القرآن قديم، وأنه لا يتعلق بمشيئة وقدرته. ولكن اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق. والمخلوق عندهم ما خلقه الله من الأعيان، والصفات القائمة بها. اهـ.
وما أوهم هذا المعنى من كلامهم، فإن المراد به صفة الكلام لا خصوص القرآن، ولذلك إنا نقول: الإشكال عند السائل يزول بالتفريق بين نوع الكلام وآحاده، فإن كلام الله تعالى قديم النوع، حادث الآحاد. وهذا يتضح أكثر وأكثر بالتفريق بين الصفات الذاتية، والصفات الفعلية، والصفات الذاتية الفعلية، ومنها صفة الكلام.
ولمزيد الفائدة، فإننا ننبه على أن مذاهب الناس في مسألة الكلام كثيرة متشابكة، ولا يسلم منها إلا مذهب السلف، وضبطه يكفي المرء تشعب الخلاف وتشابكه.
ولبيان هذه المذاهب ننقل للسائل كلام ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية، حيث قال: افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:
ـ أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني ... وهذا قول الصابئة، والمتفلسفة.
ـ وثانيها: أنه مخلوق، خلقه الله منفصلا عنه، وهذا قول المعتزلة.
ـ وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، هو الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه، كالأشعري وغيره.
ـ ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام، ومن أهل الحديث.
ـ وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما، وهذا قول الكرامية وغيرهم.
ـ وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه، وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.
ـ وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته، هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
ـ وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي، ومن اتبعه.
ـ وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديما. وهذا المأثور عن أئمة الحديث، والسنة.