الشفاعة هي السؤال لفصلِ القضاء، والتجاوز عن الذنوب، وتخفيف العذاب، وزيادة الثواب لمستحقه، وهي أهم ما يبحث عنه الناس يوم القيامة من هول ما يجدونه من عذاب، فيهرع الناس إلى الأنبياء وإلى كل من يظنون فيه أنه قد يشفع لهم عند ربهم ليتجاوز عن معاصيهم وسيائتهم، ويدخلهم الجنة برحمته، فلا يجدون أحد لهذه الشفاعة إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن رحمة الله تعالى وفضله وجوده على عباده المسلمين أن جعلَ لهم الشفاعة يوم القيامة، فهي ليست شفاعة واحدة، بل هي شفاعات من رب السموات، وهذه الشفاعة من مقتضيات الإيمان باليوم الآخر، وعندما يقرؤها المؤمن يزداد حبًّا لصاحبها وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وعن حذيفة عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، فصلَّى الغَدَاة، ثم جلس، حتى إذا كان من الضحى، ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى، والعصر، والمغرب، كل ذلك لا يتكلَّم، حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله، فقال الناس لأبي بكر: ألا تسألُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأنه؟ صنع اليوم شيئًا لم يصنعْه قط، قال: فسأله، فقال: ((نعم، عرض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون بصعيدٍ واحد، ففظع الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم - عليه السلام - والعرق يكاد يُلجِمهم، فقالوا: يا آدم، أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك الله - عز وجل - اشفعْ لنا إلى ربك، قال: لقد لقيتُ مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوحٍ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، قال: فينطلقون إلى نوح - عليه السلام - فيقولون: اشفعْ لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يَدَعْ على الأرض من الكافرين ديَّارًا، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى إبراهيم - عليه السلام - فإن الله - عز وجل - اتَّخذه خليلاً، فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى - عليه السلام - فإن الله - عز وجل - كلَّمه تكليمًا، فيقول موسى - عليه السلام -: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم، فإنه يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويُحْيي الموتى بإذن الله، فيقول عيسى - عليه السلام -: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيِّد ولد آدم، فإنه أولُ مَن تنشق عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع لكم إلى ربكم - عز وجل - قال: فينطلق، فيأتي جبريل - عليه السلام - ربَّه، فيقول الله - عز وجل -: ائذنْ له، وبشِّره بالجنة، قال: فينطلق به جبريل، فيخرُّ ساجدًا قدر جُمعة، ويقول الله - عز وجل -: ارفعْ رأسَك يا محمد، وقل يُسمَع، وسل تعطى واشفعْ تشفَّع، قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه - عز وجل - خرَّ ساجدًا قدر جُمعة أخرى، فيقول الله - عز وجل -: ارفعْ رأسك، وقل يُسمَع، واشفعْ تشفَّع، قال: فيذهب ليقع ساجدًا، فيأخذ جبريل - عليه السلام - بضَبْعَيه فيفتح الله - عز وجل - عليه من الدعاء شيئًا لم يفتحْه على بشرٍ قط، فيقول: أي رب، خلقتني سيِّد ولد آدم ولا فخر، وأول مَن تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، حتى إنه ليَرِدُ عليَّ الحوضَ أكثرُ مما بين صنعاء وأَيْلَة، ثم يقال: ادعوا الصدِّيقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي ليس معه أحد، ثم يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلَتِ الشهداءُ ذلك، قال: يقول الله - عز وجل -: أنا أرحم الراحمين، أَدْخِلوا جنتي مَن كان لا يشرك بي شيئًا، قال: فيدخلون الجنة، قال: ثم يقول الله - عز وجل -: انظروا في النار، هل تَلْقَون مِن أحدٍ عمل خيرًا قط؟ قال: فيجدون في النار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع والشراء، فيقول الله - عز وجل -: أَسْمِحُوا لعبدي كإسماحِه إلى عبيدي وأكثر، ثم يُخرِجُون من النار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أني قد أمرت ولدي إذا مت فأحرقوني بالنار، ثم اطحنوني، حتى إذا كنت مثل الكحل، فاذهبوا بي إلى البحر، فاذرُوني في الريح، فوالله لا يَقْدِر عليَّ رب العالمين أبدًا، فقال الله - عز وجل -: لِمَ فعلت ذلك؟ قال: مِن مخافتك، قال: فيقول الله - عز وجل -: انظرْ إلى مُلْك أعظم مَلِك، فإن لك مثلَه وعشرة أمثاله، قال: فيقول: لِمَ تسخرُ بي وأنت المَلِك؟ قال: وذاك الذي ضحكتُ منه من الضُّحَى)).
اظهار أخبار متعلقة
أين تجد رسول الله ليشفع لك؟
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: ((أنا فاعل))، قال: قلت: يا رسول الله، فأين أطلبك؟ قال: ((اطلبني أول ما تطلبني على الصراط))، قال: قلت: فإن لم ألقَك على الصراط؟ قال: ((فاطلبني عند الميزان))، قلت: فإن لم ألقَك عند الميزان؟ قال: ((فاطلبني عند الحوض؛ فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن)).
وللنبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شفاعة، منها خاصة به - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه فيها أحد، وهي:
1- الشفاعة العظمى:
المقصود بها الشفاعة لبدء الحساب، ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تتبع نبيَّها، يقولون: يا فلان، اشفعْ، يا فلان، اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك يومَ يبعثُه الله المقام المحمود))[5]، وكما في حديث الباب الذي مرَّ معنا.
2- الشفاعة في أهل الجنة لدخول الجنة:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول الناس يشفعُ في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا)).
3- شفاعته لعمِّه أبي طالب:
ففي الصحيحين من حديث عباس بن عبدالمطلب، قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطُك ويغضبُ لك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، هو في ضَحْضَاح من نارٍ، لولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار)).
وهناك شفاعة عامَّة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويشترك معه سائر المؤمنين، وهي الشفاعة في أهل المعاصي والذنوب ليخرجوا من النار، كما ورد في الحديث السابق لشفاعة النبي في الناس يوم القيامة.
ثم الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة:
لقوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [الطور: 21].
والشفاعة لأهل الأعراف:
وهم قوم استوتْ حسناتهم وسيئاتهم، فيَقِفُون بين الجنة والنار، يرون أهل الجنة، فيقولون: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 46]، ويرون أهل النار فيقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 47]، فيأذن الله بالشفاعة فيهم، فيشفع فيهم النبيون، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون، ومما يدل على الشفاعة فيهم، عموم الشفاعة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)).