دار الإفتاء المصرية ردت علي هذا التساؤل بالقول :ارتكاب أحد الزوجين للمعاصي لا يُعَدُّ بمجرده من مسوغات سقوط حقه على الآخر، ولا يحلّ للمرأة الامتناع عن زوجها تحت دعوى ارتكابه شيئًا من المعاصي، بل عليها أن تعظه برفق وتنصحه بتلطّفٍ وتصبر عليه، مع وجوب إيفائه حقَّه عليها، والدعاء له بظهر الغيب، وهذا كله ما لم يكن في معصيته ما يُلْحِقُ بها الضرر.
وقالت الدار في الفتوي المنشورة علي بوابتها الاليكترونية إن عقد الزواج هو اللبنة الأساسية التي يتكون منها المجتمع، ولذا وصفه الله تعالى بأنه ميثاقٌ غليظ؛ فقال سبحانه: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء الأية 21: ولأهمية هذا الميثاق استفاض الشرع الشريف في بيان أحكامه، فبيَّن الأسسَ التي ينبغي أن يُبني عليها، والأسسَ التي يَستقر بها، والأسبابَ التي إن وُجِدَت مَنَعَت من استمراره وارتَفَع بها حِلُّ كلا الزوجين للآخر
وأشارت الدار إلي أن من الأسس التي أمر الشرع أن يُراعيها كِلا الطرفين في اختيار الطرف الآخر، والتي يضمن بها في المقام الأول استقرار الحياة بينهما: أن يكون مناط الاختيار على معيار الخُلُق والدِّين؛ لما يترتب على التحلي بهما من تكوين رادع داخلي يدفع صاحبه إلى القيام بما عليه من حقوق أو واجبات، ويمنعه في الوقت نفسه من التعدّي أو الجور أو ارتكاب المحرمات التي تضرّ به أو بالطرف الآخر،
ونبهت أن هذا ما أرشد إليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» أخرجه الترمذي والبيهقي في "السنن"، والطبراني في المُعجَمَين "الأوسط" و"الكبير" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» متفق عليه.
ووشددت فتوي الدار علي أن من الأسس التي يستقرّ بها عقد الزواج: أن يدرك كُلٌّ من الطرفين أنَّ عليه واجبات كما أنَّ له حقوقًا، فإذا حرص على بذل ما عليه كحرصه على أخذ الذي لَهُ؛ كان ذلك إيذانًا باستقرار الحياة بينهما.
وأمَّا الموانع التي ترفع الحلّ وتمنع من استمرار الزوجية بين الزوجين؛ فمنها: ما هو راجع إلى اختيارهما معًا أو أحدهما؛ كالطلاق أو الخلع، ومنها: ما هو راجع إلى حكم الشرع فيهما؛ كالرِّدَّةِ عن الإسلام، أو ثبوت محرمية الرضاع بينهما بعد الزواج، ويختص بالتفريق حينذاك القضاء.
واستدركت الدار للقول :أما ارتكاب شيءٍ مِن المعاصي أو التقصير في أداء بعض الطاعات مِن كلا الزوجين أو أحدهما: فليس من أسباب ارتفاع الحلّ بينهما، ولا من مسوغات الامتناع عن الحقوق الثابتة لأيِّ واحدٍ منهما على الآخر بموجب ما بينهما من عقد وميثاق غليظ، بل هو من موجبات الصبر عليه ووعظه برفق، والعمل على نجاته، وحثه على الطاعة بالموعظة الحسنة والدعاء له بظهر الغيب؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أمر المسلمين بأن يكونوا أصحابَ دورٍ إيجابي في مجتمعهم الذي يعيشون فيه، كُلٌّ على قدر وسعه وطاقته، والأمرُ بالمعروف والنصحُ به من الأوَّليات التي يُبنى عليها المجتمع الصالح، وأولى الناس بالنصح هم الأقربون، وصلة الزوج بزوجته من أقرب الصِّلات الإنسانية؛ حتى وصفها الله تعالى بقوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187].
ولفتت إلي أن تلك الصلة وذاك القرب إنما يستوجبان الرغبة في الإصلاح والنجاة، لا النفور والامتعاض والإعراض، ولذا حثَّ الشرع الشريف على أمر الأهل بالصلاة والصبر على ذلك حتى يمتثلوا بها، كما أمر بالعمل على وقايتهم من النار كما هو العمل على وقاية النفس منها؛ فقال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6].
قال العلَّامة الماوردي في "النكت والعيون" (3/ 434، ط. دار الكتب العلمية): [﴿وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا﴾ أي: اصبر على فعلها، وعلى أمرهم بها] اهـ.
وروي عَنْ عَلِيِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾؛ قال: "عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ" أخرجه البيهقي في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
وعن زيد بن أسلم: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾؛ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ أَوْقَيْنَا أَنْفُسَنَا؛ فكيف بأهلينا؟ قال: «تَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ، وَتَنْهَوْهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللهِ» ذكره الإمام ابن وهب [ت: 197هـ] في "تفسيره" (2/ 38، ط. دار الغرب الإسلامي).
وعَنْ قتادة في تفسير قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾؛ قَالَ: "مُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ، وَانْهَوْهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ" ذكره الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "تفسيره" (3/ 303، ط. مكتبة الرشد).
وعادت الدار للقول الأمر بالصبر على الأهل يشمل الرجل والمرأة على السواء؛ لأن كلًّا منهما أهلٌ للآخر ومسؤولٌ عن رعايته؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه، واللفظ للبخاري.
ووافادت الدار أن تلك المسؤولية لا تقتصر على الاهتمام بأمور المعيشة فقط، بل تتجاوز ذلك لتشمل المسؤولية الإيمانية والاجتماعية بالنصح والإرشاد ومن تمام هذه المسؤولية خاصة في مسألتنا: صبر الزوجة على زوجها إن كان عاصيًا، ودعوته إلى طاعة الله تعالى، ونصحه وترغيبه في ذلك برفق وتلطف دون مخاصمة أو كثرة جدال، وترك التقصير في حقوقه بسبب معاصيه، كيلا تكون بذلك دافعة إياه إلى ارتكاب المزيد من المعاصي، خاصة إذا تعلق الأمر بالحقّ في المعاشرة الزوجية.
اقرأ أيضا:
هل جاء في الإسلام أن صوت المرأة عورة؟ووبحسب الفتوي قد أثنى الله تعالى على نساء صبرن على طغيان أزواجهن والجهر بمعصيتهم لله تعالى مع نصحهن لهم، حتى جعل سبحانه ذلك من أسباب فوزهن بالجنة؛ فقال جلَّ شأنه: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» متفق عليه.
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (15/ 198، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه، والمراد هنا: التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى] اهـ.
وجاء في الأثر: "مَنْ صَبَرَ عَلَى سُوءِ خُلُقِ امْرَأَتِهِ أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا أَعْطَى أَيُّوبَ عَلَى بَلَائِهِ، وَمَنْ صَبَرَتْ عَلَى سُوءِ خُلُقِ زَوْجِهَا أَعْطَاهَا اللهُ مِثْلَ ثَوَابِ آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ" ذكره الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/ 43، ط. دار المعرفة).
وقد ربط الشرع الشريف حق الاستمتاع بالمرأة بأداء مهرها والإنفاق عليها، لا بطاعة زوجها لله تعالى أو معصيته له، فإذا منعها حقها من النفقة؛ كان لها الامتناع عن حقه في المعاشرة الزوجية والاستمتاع بها.
وعادت الدار للقول إن الله تعالى لم يبح لمخلوق أن ينتقص من حق الآخر عليه بدعوى عصيانه لله تعالى أو نقصان طاعته، ما دام قد ثبت له هذا الحق بداعي الشرع أو العرف؛ إذ إن طاعة العبد أو عصيانه لله تعالى إنما يعود نفعها وأثرها إليه لا إلى غيره؛ كما قال تعالى: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: 15].
ولا يخفى ما في الانتقاص من حقوق العباد الواجبة لهم حال عصيانهم لله من محاسبتهم ومعاقبتهم بما لم يأذن به الله؛ بل إنه عزَّ وجلَّ قدَّم حق العباد على حقه إذا تزاحمت عليهم الحقوق، فكيف يجوز للزوجة أن تعلق حقّ زوجها عليها بحق الله عليه، وقد تقرَّر أنّ حقوق العباد مبينة على المشاحة والمطالبة؛ فلا تسقط إلا بالتنازل أو الاستيفاء، وحقوق الله تعالى مبينة على المسامحة ورفع الحرج.
وخلصت الدار للقول في نهاية الفتوي إلي أن ارتكاب أحد الزوجين للمعاصي لا يُعَدّ بمجرده من مسوغات سقوط حقه على الآخر، ولا يحلّ للمرأة الامتناع عن زوجها تحت دعوى ارتكابه شيئًا من المعاصي، بل عليها أن تعظه برفقٍ وتنصحه بتلطّفٍ وتصبر عليه، مع وجوب إيفائه حقَّه عليها، والدعاء له بظهر الغيب، وهذا كله ما لم يكن في معصيته ما يُلْحِقُ بها الضرر.