حينما تذهب في وقت الحر الشديد إلى طريق بعيد لكي تقضي حاجة لك أو مصلحة، وتضطر للمشي على الأقدام في هذا الطريق الذي ربما يفتقد لوسائل المواصلات، ولا تجد لك من حرارة الشمس المرتفعة منجا ولا ملجأ منها إلى الله سبحانه وتعالى، تتذكر فضل غرس الشجر، وزراعته، لكي يستظل به البشر والطير والدواب.
فقد تنقطع انفاسك وأنت في الطريق، وتبحث عن أي شيئ تستظل به ولا تجد، فوقتها حينما ترى شجرة ولو في غير ما تسير له، ستجد نفسك تلقائيا وأنت تذهب إليها رغما عنك، مستغيثا بها من حرارة الشمس الحارقة، وتتذكر قول الله تعالى في كتابه الكريم: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْـضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، «سورة الرعد، الآية 4».
يقول الشيخ الصابوني في صفوة التفاسير: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ) أي في الأرض بقاع مختلفة متلاصقات قريب بعضها من بعض، قال ابن عباس: أرض طيبة، وأرض سَبْخَة، تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت، (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ) أي بساتين كثيرة من أشجار العنب (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ)، أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحد شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة (يُسْقَى بمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ) أي الكل يسقى بماء واحد، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفات الطعوم.
فالشجر هو أفضل ما على وجه الأرض، فبه عمارتها، وزينتها وخضرتها وطعامها، يقول الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيض والأسود، بعضُها حلو، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض، مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أي علامات باهرة ظاهرة، لمن عقل وتَدَبَّر.
والواجب على الإنسان أن ينظر إلى نعم الله في هذا الكون فيتأملها، ويعمل على تنميتها، وأن يوفيها حقها، ويشكر الله عليها، وأن يعرف أن وراء هذه النعم مُنْعِم وخالق ورزَّاق ، قال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا*، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ)، «ســورة عبـس الآية 24-32».
اظهار أخبار متعلقة
اغرس شجرة في الجنة
وحينما تتفكر في هذا الطير الضعيف وهذه الدواب المخلوقة، تجد كيف تعيش هذه المخلوقات بين هذه الأشجار التي نغرسها، وكيف يحتاج إليها الإنسان، فالمزارع يزرع الأرض ويغرس الأشجار، فنأكل من ثمارها ونستظل بظلها، كما أن الفلاح يحرث الأرض، ويبذر الحب، والحبة تنمو بقدرة الله سبحانه وتعالى فتصبح شجرة لها جذور، وساق، وسنابل، لذلك فنحن مطالبون بضرورة المحافظة على الأرض وزراعتها لأنها ثروة عظيمة.
فأحب ما دل عليه النبي لامته، أن يغرسوا الشجر، ويعملون على عمارة الكون بزراعة الأشجار، فنبه على ألا ندع مساحة جرداء بدون زراعة، كما يجب علينا المحافظة على الأشجار والحدائق العامة وعدم الاعتداء عليها بقطعها وقلعها، فهي عنوان حضارة الأمم.
ومع التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة نتيجة الاعتداء على البيئة الخضراء وقطع الأشجار، تبرز لدينا أهمية فضل الغرس والزرع، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على زراعة الأشجار من زيتون وأعناب ونخيل وغيرها، والأحاديث النبوية تجعل غرس الشجر من أعظم الأعمال الصالحة، لما رُوي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة»، (أخرجه مسلم).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنَّ رجلاً مَرَّ به، وهو يغرسُ غرساً بدمشق، فقال له: أتفعلُ هذا، وأنت صاحبُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟! قال: «لا تَعْجَلْ عَلَيَّ» انتظر حتى أفهمك السنة في هذا العمل وثوابه»، سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ غَرَسَ غَرْساً، لم يأكلْ منه آدميٌ، ولا خلق من خلق الله، إلا كانَ له به صدقة»، (أخرجه أحمد).
اقرأ أيضا:
كل الأخطاء مغفورة عند الله.. إلا هذا الذنبعمل صالح تدخره لنفسك في الأخرة
وغرس الشجر من الأعمال الصالحة التي تنفع صاحبها بعد موته.
فعن أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: سَبْعٌ يجري للعبدِ أجْرُ هُنَّ وهو في قبره وهو بعد موته: مَنْ عَلَّمَ علماً، أو كَرَى نهراً، أو حَفَرَ بئراً، أو غَرَسَ نخلاً، أو بنى مسجداً، أو وَرَّث مُصحفاً، أو ترك ولداً يستغفرُ له بعد موته»، (أخرجه البيهقي).
والإسلام يحثّ المسلمين على عمارة الأرض وغرس الأشجار حتى عند قيام الساعة.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة»، «نخلة صغيرة أو شتلة» فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل»، (أخرجه أحمد).
وتعرف الأمم المتحضرة و الراقية بكثرة الخضرة فيها، فهناك دول في أوروبا تعيش على الزراعة فقط مثلا هولندا والدنمارك وغيرها، من الأمم التي تستغل أرضها بالزراعة والتشجير، فلا تدع شبراً واحداً غير مستغل، فالزراعة دعامة الاقتصاد الوطني، فمنها نأكل الخبز والطعام، ونلبس الملابس، ونشرب العصائر، ونستخرج الزيوت، ونقضي الأوقات السعيدة في الحدائق والغابات.
فكثرة الخضرة والزرع تدل على الطمأنينة، والأمن، قال الله سبحانه وتعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)، «سورة النحل الآية 112».
وروى ابن جرير، عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال: بينما أبو بكر وعمر جالسان إذ جاءهما النبي- صلى اللّه عليه وسلم- فقال: (ما أجلسكما ههنا؟)، قالا: والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع، قال: «والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره»، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار، فاستقبلتهم المرأة، فقال لها النبي - صلى اللّه عليه وسلم-: «أين فلان؟»، فقالت: ذهب يستعذب لنا ماء، فجاء صاحبهم يحمل قربته، فقال: مرحباً ما زار العباد شيء أفضل من نبي زارني اليوم، فعلق قربته بكرب نخلة، وانطلق فجاءهم بعذق، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم-: «ألا كنت اجتنيت»، فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وسلم-: «إياك والحلوب»، فذبح لهم يومئذ، فأكلوا، فقال النبي - صلى اللّه عليه وسلم-: «لتسألن عن هذا يوم القيامة أخرجكم الجوع، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا، فهذا من النعيم».