بعض الناس يظن في حديث "ساعة وساعة" أنه له الحق في أن يعبد الله ساعة، والساعة الأخرى من حقه أن يفعل أي شيء حتى ولو كان محرمًا، فيقبل على المعصية مزهوا بها، وكأن الحديث يحرضه عليها، غير مكترث بالفهم الصحيح لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومدلول الحديث، وماهي المباحات وماهي المحرمات حتى لا يقع في المعصية، خاصة وأن أعمارنا كلها يجب أن تكون لله، فساعة العبادة لله، وساعة الراحة أو الاستمتاع بالحلال هي لله أيضا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم، لم يفرض على الناس -ولم يفترض فيهم- أن يكون كل كلامهم ذكرًا، وصلاة، وكل صمتهم فكرًا في كون الله، وكل سماعهم قرآنًا، وكل فراغهم في المسجد، وإنما لديهم أعمالهم، وأولادهم وزوجاتهم، فاعترف بهم وبفطرتهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وكتب لهم في هذه الفطرة لطالما كانت في الإطار الذي أحله الله، كتب لهم بها حسنة وأثابهم عليها.
اجعل الساعتين لله
وانظر للرجل الذي ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن جماع الرجل لإمرأته، ههل يثاب عليه، فأجابه النبي بالإيجاب وأقر هذا، فاندهش الصحابي وسأل النبي كيف؟، فقال له النبي: " أرأيت إن وضعها في حرام ألم يأخذ عليها سيئة؟ فرد عليه قائلا: "بلى" فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: " كذلك إن وضعها في الحلال.
وقد خلق الله سبحانه الناس يفرحون ويمرحون ويضحكون ويلعبون، كما خلقهم يأكلون ويشربون.
ولكن الفرحة والضحكة التي خلقها الله فينا: "وأنه أضحك وأبكى" لها حدود بحيث لا تتعدى للحرام، ولقد بلغ السمو الروحي ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مبلغًا ظنوا معه أن الجد الصارم، والتعبد الدائم لا بد أن يكون ديدنهم، وأن عليهم أن يديروا ظهورهم لكل متع الحياة، وطيبات الدنيا، فلا يلهون ولا يلعبون، بل تظل أبصارهم وأفكارهم متجهة إلى الآخرة ومعانيها بعيدة عن الحياة ولهوها.
وانظر للصحابي الجليل حنظلة الأسيدي -وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
لقيني أبو بكر وقال: كيف أنت يا حنظلة؟
قلت: نافق حنظلة.
قال: سبحان الله، ما تقول؟!
قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا.
قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا.
قال حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: نافق حنظلة يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟
قلت: يا رسول الله. نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرًا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده: إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، وكرر هذه الكلمة -ساعة وساعة- ثلاث مرات".
اقرأ أيضا:
أدرك عمرك قبل فوات الأوان بهذه الطاعاتدين الواقعية
فالإسلام دين واقعي لا يحلق في أجواء الخيال والمثالية الواهمة، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع، ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولكنه يعاملهم بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
وكانت حياته صلى الله عليه وسلم مثالًا رائعًا للحياة الإنسانية المتكاملة: فهو في خلوته يصلي ويطيل الخشوع والبكاء والقيام حتى تتورم قدماه، وهو في الحق لا يبالي بأحد في جنب الله، ولكنه مع الحياة والناس بشر سوي يحب الطيبات، ويبش ويبتسم، ويداعب ويمزح، ولا يقول إلا حقًا.
كان صلى الله عليه وسلم يحب السرور وما يجلبه، ويكره الحزن وما يدفع إليه من ديون ومتاعب، ويستعيذ بالله من شره، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن".
ومما روي في مزاحه أن امرأة عجوزًا جاءته تقول له: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوزًا. وانزعجت المرأة وبكت -ظنًا منها أنها لن تدخل الجنة- فلما رأى ذلك منها بين لها غرضه: إن العجوز لن تدخل الجنة عجوزًا، بل ينشئها الله خلقًا آخر، فتدخلها شابة بكرًا. وتلا عليها قول الله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} (الواقعة:35-37).
لذلك معنى ساعة وساعة أن الإنسان ما بين عبادته وانشغاله بعمله الحلال ولعبه مع زوجته أو مع أولاده، هو يحصل على الثواب، لأنه مطالب بهذا ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام أن يلاطف زوجاته ويلاعب أبناءه، ولكن ليس المعنى أن ينشغل بالحرام عن الحلال زاعما بحسب ظنه أنه ساعة للحلال وساعة للحرام.