الثَّبات على الدِّين الحق حتى الممات ليس بالأمر اليسير إلا على من يَسَّره الله عليه، وخاصة في زمن الفتن، وتقلب الأحوال؛ فقد يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، كما روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
ولأهمية الثبات والاستقامة أوجب الله في كل صلاة أن يسأل المسلم ربه أن يهديه إلى صراطه المستقيم؛ ويجنِّبه طريق المغضوب عليهم والضالين، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي يُكثر من ترداده أن يقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». كما روى الترمذي وغيره عن شهر بن حوشب قال قلت لأمِّ سلمة : يا أمَّ المؤمنين ما كان أكثرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت: كان أكثر دعائه: يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قالت: فقلت: يا رسول الله ما لأَكثرِ دعاءك يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ؟ قال: «يا أم سلمة: إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبه بين أُصبعين من أصابع الله، فمَنْ شاء أقام، ومن شاء أزاغ. فتلا مُعاذٌ {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} .
فالاستقامة على الدِّين القويم والسير على منهاجه المستقيم مطلب كل مؤمن، ومبتغى كل مسلم؛ لأن بالاستقامة عليه يكون محقِّقاً للأمر الرباني الذي أمر عباده بالاستقامة على دينه إلى أن يلقوه؛ كما قال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
اقرأ أيضا:
أخطأوا في حقك وجاؤوا معتذرين.. ماذا يجب عليك؟
وفي أعظم فتنة تأتي على الناس منذ الخلق إلى قيام الساعة؛ وهي فتنة الدجال؛ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على الدين والاستقامة عليه، كما روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلَابِيِّ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَسَأَلْنَاهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الْغَدَاةَ ، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، قَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ مِنِّي عَلَيْكُمْ، فَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ جَعْدٌ قَطَطٌ ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ خِلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ اثْبُتُوا».
ولمنزلة الاستقامة في الدِّين كان جزاء المستقيمين على دينهم أن يأتيهم جزاءهم عاجلاً حيث تُبشِّرهم الملائكة بأن لا يخافوا مما يُقدمون عليه؛ ولا يحزنوا مما خلَّفوه وراء ظهورهم؛ كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ*نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 – 32].
وكان من جزائهم أيضاً: التثبيت في هذه الحياة الدنيا عند ورود الفتن والشبهات؛ وتثبيتهم في الآخرة عند أول منــــــازلها، وهو القبر عند امتحانهم فيه؛ كما قال تعالى: { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
وقد ذكرَ أهلُ العلم جُملةً مِن الوسائل والأسبابِ التي تُعينُ على الثباتِ في مواقفِ الفتنِ والمُتغيِّرات:
وأول الأسباب وأهمُّها: تحقيقُ التوحيد قولًا وعملًا واعتِقادًا، وتحقيقُ العبوديَّة التامَّة لله وحدَه، ومعرفةُ الله حقَّ المعرِفة. فمَن كان بالله أعرَف كان مِنه أخوَف، قال – عزَّ شأنُه -: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
ومِن أسبابِ الثبات: لُزومُ الطاعات والعمل الصالِح، والاستِقامة على الخير حسب الطاقة والاستِطاعة، ولُزومُ الجادَّة، وحبُّ الخير وبذلُه للناس، واحتِسابُ الخير والأجرِ عند الله.
ومِن أسبابِ الثبات: مُلازمةُ العُلماء والرُّجوعُ إليهم، يقولُ – عزَّ شأنُه -: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقال – جلَّ وعلا -: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]. فمُلازمةُ العُلماء عِصمةٌ مِن الضلالِ والانحِراف.
ومِن أعظم الأسباب: الدُّعاءُ، والتضرُّع، والانطِراحُ بين يدَي الله الربِّ الرحيم، مُقلِّب القلوبِ، والاشتِغالُ بذِكرِ الله ومُناجاتِه، وحُسن التعلُّق به. وأيضًا، مُلازمةُ كِتابِ الله – عزَّ وجل -، قال – عزَّ شأنُه -: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: 32]، وقال – عزَّ شأنُه -: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأنعام: 104].
ومما يجمَعُ ذلك كلَّه: حُسنُ ظنِّ العبدِ بربِّه، وتمامُ التعلُّق به؛ فليس مِن شأنِ المُؤمن اليأسُ والقُنُوط، بل تراه دائمًا خائفًا راجِيًا، ولا يكونُ حُسنُ الظنِّ على وجهِه إلا مع إحسانِ العمل، والإقبالِ على الله، ودوامِ الطاعة والعملِ الصالِح.
يقولُ ابنُ مسعُودٍ – رضي الله عنه -: “والذِي لا إلا غيرُه؛ ما أُعطِيَ عبدٌ مُؤمنٌ شيئًا خيرًا مِن حُسن الظنِّ بالله – عزَّ وجل -، والذي لا إلا غيرُه؛ لا يُحسِنُ عبدٌ بالله – عزَّ وجل – الظنَّ إلا أعطاه الله ظنَّه، ذلك بأن الخيرَ بيدِه”.
اقرأ أيضا:
ابتعد عن هذا الذنب حتى لا يتبرأ منك النبي يوم القيامة