يبحث الكثير من الناس عن راحة باله في ظروف عز فيها راحة البال نتيجة كثرة الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، الأمر الذي يدخل أغلبهم في حالة من الاكتئاب واليأس نتيجة انتشار الفقر والحاجة والبطالة، ليتعلق الأمل في قلوبهم ببعض أسباب الدنيا، ظنًا منه أنها قد تكون الملجأ للنجاة من الفقر واليأس، إلا أنهم سرعان ما يجدون إفلاس هذه الأسباب الدنيوية في تغيير الواقع المر الذي يحيا فيه، فيقعون فريسة لليأس وانقطاع الأمل.
هذا الأمل لم ينقطع عن الأنبياء وأولياء الله الذين فهموا مراد الله في أرضه، وعرفوا أسباب النجاة الحقيقة في الدنيا والأخرة، فكانوا دائما ما يبحثون عن ضالتهم في أوامر الله ونواهيه، والتي جاءت بفضل الله في كتبه ورسالته، وأعظمها القرآن الكريم.
ومع دليل جديد للنجاة من اليأس وانقطاع الأمل، يقول الله تعالى عنه : ﴿فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب﴾.
فجاءت الآية الكريمة محمولة على شرط ونتيجة لما بعده، فقد جعل الله شرط فك كرب إبراهيم لاستجلاب الرضا، هو عزلة نبي الله إبراهيم عما يعبد قومه من دون الله، فكانت النتيجة هو أن وهب الله له إسحاق ويعقوب، رغم أن إبراهيم كان شيخا كبيرا.
وجاء في تفسير الطبري عن هذه الآية الكريمة من سورة مريم : { فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } إنه "لَمَّا اِعْتَزَلَ إِبْرَاهِيم قَوْمه وَعِبَادَة مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه مِنْ الْأَوْثَان آنَسْنَا وَحْشَته مِنْ فِرَاقهمْ , وَأَبْدَلْنَاهُ مِنْهُمْ بِمَنْ هُوَ خَيْر مِنْهُمْ وَأَكْرَم عَلَى اللَّه مِنْهُمْ , فَوَهَبْنَا لَهُ اِبْنه إِسْحَاق , وَابْن اِبْنه يَعْقُوب بْن إِسْحَاق { وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا }.
فاعتزال المعصية، ومكان المعصية، وأهل المعصية، لأجل الله تعالى.. يفتح للعبد باباً من الهِبات والعطايا التي تسعده وتفرح قلبه وروحه، ولكن يجب أن يكون ترك المعصية لله، لأنه من الممكن أن يكون تركك للمعصية من أجل أسباب أخرى غير مرضاة الله.
فمن أحوال ترك المعصية أن يترك المعصية خوفا من الله ، فهذا مأجور على تركه لتلك المعصية ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي : ( ... وَإِنْ تَرَكَهَا – أي : السيئة - مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً ... ).
ومن الناس من يترك المعصية مراءاةً للناس وطلباً لمدحهم ، فهذا غير مأجور على تركه ، بل قد يأثم على ذلك ؛ لأن ترك المعصية عبادة ، والعبادة لا تكون إلا لله .
اقرأ أيضا:
الفرق بين الكرم والسفه.. بطون المحتاجين أولى وهناك أيضا من يترك المعصية حياء من الناس ، فهذا لا إثم عليه ، لكن قد يثاب على الترك إذا صاحب ذلك مقصد شرعي مما يحبه الله تعالى ، كأن يترك المعصية خشية أن يُقدح في الدعاة وأهل الدين .
وأكد إجماع العلماء أن العبادة لا تقبل من المسلم إلا بشرطين :
الأول : إخلاص النية لله تعالى ، وهو أن يكون مراد العبد بأقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى دون غيره .
الثاني : موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يعبد إلا به ، وذلك يكون بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، وترك مخالفته ، وعدم إحداث عبادة جديدة أو هيئة جديدة في العبادة لم تثبت عنه عليه الصلاة والسلام .
واستدلوا بقوله تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) الكهف/110 .
وعَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ» فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ رضي الله عنه: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ.
وقد جاءت روايات تحذِّر من الاستهتار بالمعصية؛ حتى ولو كانت صغيرة؛ فقد روى أحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَـهَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا» وعن ابن مسعود مرفوعًا: «إياكم ومُحَقَّراتَ الذنوب، فإنهن يجتَمعْن على الرجل حتى يُهْلِكْنَه» رواه أحمد.
وقال أنسٌ رضي الله عنه: "وَاللهِ، إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ مِنَ الْمُوبِقَاتِ" رواه البخاري وأحمد.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يمشي في الوَحلِ ويتوقَّى، فغاصَت رجله فخاض، وقال لأصحابه: "هكذا العبدُ لا يزال يتوقَّى الذُّنوبَ فإذا واقعها خاضها". ذكره ابن عقيل وغيره.