تعد نصرة المظلوم من الأشياء التي تضمن الجنة لأصحابها، خاصة وأن المظلوم هو حبيب الله، وليس بينه وبين إجابة دعوته إلا أن يرفع يديه قائلاً: " يارب"، فقد أقسم الله على نفسه بان ينصره ولو بعد حين، قال تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6)".
فإذا كان الله عز وجل طلب من نبيه أن يجير المستجير به من الكافرين، فما بالنا بنصرة المظلومين من المسلمين، خاصة من الذين يذبحون من الوريد إلى الوريد في ربوع الأرض، وفي القلب منها المسلمين المرابطين في المسجد الأقصى.
فنصرة المظلوم هي واجب وفرض ديني، فرضه الله تعالى على المسلم، وأجب عليه بأن ينصر أخاه ظالما أو مظلوما، فقال الصحابة ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما يارسول الله، قال صلى الله عليه وسلم أن نمنعه عن ظلمه.
وكانت نصرة المظلوم عند العرب قبل الإسلام، دليلاً على مروءة الرجل العربي وشهامته، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته الشريفة، لحلف الفضول، كان النبي له من العمر 20 عاماً.
وتأسس حلف الفضول نتيجة المعركة التي شبت بين العرب، ففي يوم من أيام قريش المشهودة في الجاهلية تعرّض أعرابي من زبيد (من اليمن) لظلم العاص بن وائل أحد سادات قريش في ذلك الوقت، ووالد عمرو بن العاص وهشام بن العاص رضي الله عنهما، فقد ابتاع منه العاص ابن وائل تجارته ولم يوفه حقها، فطالبه به فتجاهله العاص وصدّه، فلجأ إلى سادات قريش من بني عبد الدار، ومخزوم، وعدي وغيرهم، فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل السيد الشريف، بل انتهروا هذا المظلوم المسلوب حقه.
وأتى الزبيدي الناس، فقال: من يجيرني يا أيها الناس؟ فما أجاروه. سُلبت تجارتي من يعطيني الدَين؟ فرفضوا أن يعطوه. هكذا كان القوم، إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا طالب فيهم الضعيف بحقه تجاهلوه ونهروه وهذه نقيضة من نقائض العرب.
فلجأ الرجل إلى حيلة ذكية، وهي التشهير بظالمه وفضحه على رؤوس الأشهاد، فصعد عند طلوع الشمس، جبل أبي قبيس، وهو أحد الأخشبين، في الجهة الشرقية من بيت الله الحرام، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، ونادى بأعلى صوته:
يا آلَ فِهر لمظلومٍ بضاعتُه
ببطنِ مكة نائي الدار والنفرِ
ومُحرِمٍ أشعثٍ لم يَقضِ عمرتَه
يا لَلرجالِ وبين الحِجر والحَجرِ
إن الحرام لمن تمَّتْ كرامتُه
ولا حرام لثوب الفاجر الغُدَرِ
فما أن وصل إلى مسامع سادة قريش هذه الكلمات حتى خشي القوم على سمعتهم، ومكانتهم بين القبائل، وأن يُقال أنهم يسلبون الناس حقوقهم، ويظلمون من في جوارهم، فهرع الزبير بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، ودعا لحلفٍ لنصرة هذا المظلوم وأمثاله، فاجتمعت هاشم، وزهرة، وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في ذي القعدة، وتعاهدوا بالله ليكونُن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُؤدَي إليه حقه ما رسا حراء وثبير مكانهما (أي طالما بقي جبلي حراء وثبير في مكانهما كناية عن دوام هذا الحلف)، وعلى التأسي في المعاش. وسمَّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقالوا: «لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر»، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لاحقاً عن هذا الحلف: «لقد شهدتُ مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت».
فنصرة المظلوم من مكارم الأخلاق التي جاء الإسلام ليوثِّقها ويُعلي من شأنها.
كما أن نصرة المظلوم عامة لا تقتصر على نصرة المسلم فقط، بل تمتد لنصر الكافر إن استجار بالمسلم، وكان العرب يرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم أو استجار بهم. ولقد استجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عائد من الطائف إلى مكة، بالمطعم بن عدي، سيد بني نوفل، وكان أحد الذين مزَّقوا صحيفة القطيعة، التي كتبتها قريش على بني هاشم وحاصروهم والمسلمين في شِعب أبي طالب، وكان مشركاً، فأجار النبيَ صلى الله عليه وسلم.
وقال زيد بن حارثة للنبي صلى الله عليه وسلم: «كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشا، قال: يا زيد، إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه، فلما انتهى إلى مكة، نزل بقرب (حِراء) وبعث إلى بعض حلفاء قريش ليجيروه في دخول مكَّة فامتنعوا، منهم الأخنس بن شريق، وقد بعث إليه مولاه أريقط يطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمه، فبعثه النبي إلى سهيل بن عمرو ليجيره، فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، ثم بعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره، فقال المطعم: نعم، قل له فليأت. صحيح أن القوم يتدثروا جميعاً بالسوء كما لم يكونوا جميعاً ملتحفين بالفضيلة.
ذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه، ستة أو سبعة، وبنو أخيه، متقلدي السيوف جميعًا، حتى انتهوا إلى المسجد الحرام. فقام المطعم على راحلته، فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحدٌ منكم، فأقبل أبو سفيان (وقيل أبو جهل) إلى مطعم فقال: أمجير أو تابع؟ قال: لا بل مجير. قال: إذا لا تخفر. فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن، فاستلمه، وصلى ركعتين، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف إلى بيته انصرف معه مطعم وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.
لذلك حق للمطعم أن يدخل التاريخ بعد شهامته مع النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن غيره قد منعتهم الموانع عن ذلك وتحججوا بحجج واهية، ولذلك كان موقفه هذا يستحق التقدير، وقد ظلّ النبي صلى الله عليه وسلم حافظًاً لجميل المطعم بن عدي وموقفه معه حتى بعد موته على الكفر قبل غزوة بدر، فلما أسَرَ المسلمون في غزوة بدر سبعين من المشركين، قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عدي حيّاً ثم كلمني (طلب الشفاعة) في هؤلاء النتنى لتركتهم له) «رواه البخاري».
وهناك قصة أخرى من هجرة أم سلمة رضي الله، فتروي أم سلمة قصة هجرتها فتقول، بعد أن أذن لها قومها بالهجرة وردوا عليها ولدها،: «ارتحلتُ ببعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله. فقلت: أَتَبْلَّغُ بمن لقيت حتى أَقْدِم على زوجي؛ حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة.
فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة.قال: أو ما معك أحد؟فقلت: لا والله، إلا الله، وبُنَيَّ هذا.قال: والله ما لك من مُترِك.
فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثم قيّده في الشجرة، ثم تنحّى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة». فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبًا قطُّ كان أكرم من عثمان بن طلحة». هكذا كان من أخلاق القوم ما يُحمد ويستوجب الثناء.