يظن بعض الناس أن الشهادة في سبيل الله أن تموت مقتولا فقط في الحرب، وأن تشارك في المعركة، كما يظن البعض أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه فيما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ؛ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يظن أنه إذا لم يشارك في معركة حربية أو يفجر نفسه في عدو من أعدائه، سوف يموت على النفاق، ولن يدخل الجنة.
ماهو الجهاد؟
فقد جعل الله سبحانه وتعالى ميادين الجهاد كثيرة ومتعددة، فكلمة الحق جهاد، والسعي على الرزق جهاد، فقد ورد عن أحد الصحابة أن أحب موضع يحب أن يلقى الله فيه وهو يسعى على رزق أبنائه، والإنفاق في سبيل الله وةعلى الفقراء جهاد، والحج والعمرة جهاد، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، هو الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سأل اللهَ الشَّهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازِلَ الشُّهداء وإن مات على فِراشه))؛ (رواه مسلم).
فالجهاد أمره عظيم، وهو أفضل الأعمال بعد الفرائض، وهو قد يكون فرضًا، وقد يكون فرض كفايةٍ، وقد يكون سنةً، على حسب الأحوال، قد يكون فرض عينٍ: إذا هجم العدو على المسلمين وجب عليهم عينًا أن يُجاهدوا، وكذلك إذا استطاعوا أن يُجاهدوا وجب عليهم فرض كفايةٍ أن يُجاهدوا بما يحصل به المقصود، فرض كفايةٍ إذا قام به مَن يكفي سقط عن الباقي، ويكون سنةً في حقِّ الباقين إذا كان ليس فرضًا عليه صار في حقِّه سنةً، إذا كان هناك مَن يقوم بالجهاد غيره، ولكن جاء يُشارك؛ صار في حقِّه سنةً.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَن مات ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نفسَه بالغزو مات على شعبةٍ من النِّفاق"، يدل على وجوب الغزو والجهاد، إذا كان هناك ما يحتك الجهاد من اعتداء الأعداء على ديار المسلمين، أو دخول الوطن في حالة حرب مع أعدائه، فوقتها يجب على كل مسلم أن يبدأ الجهاد بالنفس والمال، والجهد، لأنَّ الجهاد نصرٌ لدين الله، وإعلاء لكلمة الله، ودعوة إلى ما فيه صلاح الأمة ونجاتها وسعادتها، وتقوية للمؤمنين، وإعزاز لهم، وإذلال للكافرين، وحصر لهم عن أذى المؤمنين.
فالجهاد لايكون بالنفس فقط، ولكنه بالمال في إعطاء المجاهدين العاجزين، يُعطيهم مالًا يُجاهدون، يُعطيهم السلاح، يُعطيهم المطيَّة: السيارة، إعطاء الفرس، يُجاهد بماله ونفسه، واللسان بالدَّعوة إلى الله، والتحريض على القتال، باللسان بالدَّعوة إلى الله بتوجيه الناس إلى الخير، وإرشاد الكفار ودعوتهم، وتحريض المسلمين على جهادهم، كل هذا دعوة باللسان، لا يكون غافلًا، بل إما أن يُشارك بماله ونفسه، وإما بلسانه على الأقل، إذا عجز عن النفس والمال جاهد بلسانه بالدعاء للمسلمين بالنصر والتَّأييد، بالدعاء على الكافرين بالخذلان والهزيمة، إلى غير هذا، بدعوته إلى الله، وترغيبه في الإسلام، كل هذا من الجهاد.
اظهار أخبار متعلقة
جدد النية على الحب
فهم الصحابي الجليل النعمان بن مقرن المازني، المعنى الحقيقي للجهاد، وهو الحب -حب لقاء الله على الطاعة، ونصرة دينه - فحين بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن الفرس قد جمعوا جموعاً كثيرة بلغت مائة وخمسين ألف مقاتل، فاستشار الناس لقائد يوليه ذلك الثغر ولهذه المهمة؟ وبعد تداول قال: والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة إذا لقيها غداً، فقيل: من يا أمير المؤمنين؟ قال النعمان بن مقرن المزني، قالوا: هو لها!.
وكانت القوات الفارسية بقيادة الفيرزان، وقبيل بدء المعركة، قال النعمان: إني مكبر ثلاثاً، فإذا كبرت الأولى، فليتهيأ من لم يتهيأ، ويشد الرجل نعله، ويصلح من شأنه، فإذا كبرت الثانية فليشدّ الرجل إزاره وليتهيأ لوجهته، وليتأهب لوجه حملته، فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء الله، فاحملوا معي، وإن قُتلت فالأمير حذيفة، وعد سبعة آخرهم المغيرة بن شعبة. ثم قال: "" الله اعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك، اللهم إني أسألك أن تُقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عزُّ الإسلام ""، أمّنوا يرحمكم الله.
قال المغيرة: والله ما علمت من المسلمين أحداً يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتل أو يظفر.
وأثناء المعركة أُصيب النعمان فرآه أخوه نعيم، فسجاه بثوب وأخذ الراية قبل أن تقع، وناولها حذيفة بن اليمان، وقال المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يَهِن الناس، ثم هزم الله عز وجل الفرس، وهرب الفيرزان فتبعه القعقاع فأدركه مع نعيم بن مقرن في ثنية همدان، وغسل معقل بن يسار وجه النعمان بن مقرن، فقال النعمان وهو بين الموت والحياة: من أنت؟ قال: أنا معقل بن يسار، قال ما فعل الناس؟ قال: فتح الله عليهم، قال النعمان: الحمد لله اكتبوا بذلك لعمر، وفاضت روحه، فقال معقل للجند: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح، وختم له بالشهادة.
الشهادة في سبيل الله تعالى
سمِّي الشهيد شهيدًا لأنَّ ملائكة الرَّحمة تشهده، أو لأنَّ الله تعالى وملائكته شُهود له بالجنَّة، أو لأنَّه ممن يُسْتَشهد يوم القيامة على الأمم الخالية، أو لسقوطه على الشَّاهدة؛ أي: الأرض، أو لأنَّه حيٌّ عند ربِّه حاضر، أو لأنَّه يَشْهد ما أعدَّ الله له تعالى من النَّعيم، وقيل غير ذلك، والشَّهيد الذي يستحقُّ الفضائلَ السابقة ونحوها هو شهيد المعركة مع العدوِّ.
والشهداء أحياء عند الله تعالى، يقول سبحانه: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154].
ويقول: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 169 - 171].
بالنية تنال أجرَ الشهادة:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سأل اللهَ الشَّهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازِلَ الشُّهداء وإن مات على فِراشه))؛ (رواه مسلم).
ويفيد الحديث أنَّ من طلب الشَّهادة صادقًا؛ بأن يكون قَصده الجهاد في سبيل الله لنصرة دينه، ثمَّ مات على فراشه؛ فإنَّ الله يَكتب له أجرَ شهيد، ويَبعثه في زمرة الشُّهداء؛ لأنَّ الله علِم صِدق نيَّته وشرف قصده، والقرآن يؤيِّد هذا؛ وذلك أنَّ الهجرة قَبل فتح مكَّة كانت مفروضة، وتاركها عاصٍ، وكان بعض الصَّحابة يموت في الطَّريق قبل وصوله إلى المدينة، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100].