بر الوالدين ليس تفضلا منك على أبويك أو أحدهما لكنه فرض افترضه الله تعالى عليك وقرنه بعبادته سبحانه وتعالى: "وَقَضَـى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
قصص في بر الوالدين:
من جانبه، يبين د. عادل هندي الأستاذ بجامعة الأزهر عددًا من قصص الوفاء والبر التي امتلأت لها صفحات تاريخ الإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى زماننا هذا بكثير من النماذج التي سلكت طريق البرّ في حياتها، فكافأها الله تعالى وحفظها بحفظه بسبب برّهم بأمهاتهم وآبائهم.. وهذه نماذج لا يليق بنا ونحن نتكلم عن البر بالأمهات أن نغادرهم قبل أن نذكرهم بما كانوا عليه..
1. سيدنا عيسى المسيح ، يقول بنفسه عن نفسه في سورة مريم: "وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 32]، فمنذ لحظات طفولته يربيه ربُّه على البر بأمّه، التي تعبت من أجله، ولا يتنكّر لها. ولا ننسى أنّ الله امتدح يحيى بن زكريا -عليهما السلام- بأنه كان بارًّا بأبويه.. كما كان سيدنا نوح يدعو ويطلب المغفرة له ولوالديه، يقول تعالى -حاكيا دعاء نوح- وهو يدعو قائلاً رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28]..
2. سيدنا محمد الحبيب مات أبوه ولم تكتحل عيناه برؤية أبيه، وماتت أمه وهو لا زال ابن السادسة من عمره، ولمّا كبُر سنُّه استأذن ربّه أن يزور قبرها، فبينما هو عند الأبواء -مكان دفن أمّه- عام الحديبية ومعه ألفًا من أصحابه، زارَ قبرها، وأخذَ يبكِي، ومن شِدّةِ بكائه بَكَى معه أصحابه.
3. كان أبو هريرة لا يخرج من البيت إلا ويستأذن من أمّه، ويطلب دعاءها، وكان يبادلها الدعاء باستمرار. واسمحوا لي أن نتأمّل ما قاله أبو مُرّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب في شأن بِرّ أبي هريرة، قَالَ: كُنْتُ أَرْكَبُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ-موضعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَة أَمْيَال- فَإِذَا دَخَلَ أَرْضَهُ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: عَلَيْكِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ يَا أُمَّتَاهُ، تَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، يَقُولُ: رَحِمَكِ اللهُ , رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، وَأَنْتَ فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا وَرَضِيَ عَنْكَ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا.
4. حارثة بن النعمان ، البارّ بأمّه الذي سَمِع النبيُّ صوته في الجنة وهو يقرأ القرآن، وقال: كذاك البرّ. وحدّثتنا كتب التراجم أنه كان يغسل رجليها ويحملها إلى الخلاء..
5. أويس القرني ، هذا الصالح اليمنيّ، الذي بشّـر النبي وأخبر أنه سيأتي على الناس، وأوصى عمر بأن يطلب دعاءه إذا رآه، وأن يستغفر له؛ فقد كان بارًّا بأمّه. يروى مسلم في صحيحه في فضائل أويس القرني عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، لَا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَدَعَا اللهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ».. وفي رواية عند مسلم أيضًا من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ»..
وقد جاء في رواية ثالثة تبيّن سبب حب الله ورسوله له، وهو بِــرّه بأمّه؛ ففي الحديث: عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ...
وقد امتلأت كتب التاريخ والسير والتراجم بأمثلة لأبناء كان الواحد منهم يغسل رأس أمّه، وآخر يدخلها الخلاء، وآخر يغسل رجليها، وآخر يعمل على تدفئتها ليلا حتى الصباح في الليالي الباردة، وآخر ما كان يمدّ يده إلى طعام نظرت إليه أمّه يخشى أن يأكله فيكون قد عقّها بذلك، وآخر لما ارتفع صوته يومًا وأمه تناديه أعتق رقبتين تكفيرًا عن علوّ صوته، وهذا آخر محمد بن المنكدر كان يسهر الليل يدلك قدمَ أمّه ويلينها ويؤانسها، وهذا حيوة بن شريح -وهو أحد أئمة المسلمين- يقعُد في حلقته يُعلِّم التلاميذ، فتقول له أُمُّه: قُم يا حيوة فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويترك المجلس..
وإذا كان بر الوالدين محمودا ومرغبا فيه في كل وقت فهو أشد تأكيدا في الأيام الفاضلة لا سيما رمضان شهر الطاعات والعبادات.