لا يفتقر الإنسان إلى شيء في حياته الدنيا والأخرة، بقدر افتقاره للرحمة، فالرحمة هي النجاة، وهي اللطف، وهي الغوث وهي الإفلات من العذاب، لذلك جعل الله سبحانه وتعالى الرحمة صفة من صفاته العلى، ووعد من تخلق بأخلاقها أن يناله فضلها وتكون سببا لسعادته، ووصف الله عز وجل بها نفسه كثيراً في القرآن العظيم في نحو مئتي آية، فضلاً عن تصدر كل سورة بصفتي الرحمن الرحيم، وذلك في البسملة التي هي ايةٌ من كلِّ سورة عدا سورة براءة، وذلك للدلالة على مبلغ رحمته العظيمة، وشمولها العام بعباده ومخلوقاته.
قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 156 ـ 157]. وقال تعالى على لسان ملائكته الكرام: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *} [غافر: 7].
وقسم الله تعالى رحمته إلى مئة رحمة، وإن كانت رحمته قد وسعت كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ".
ينبه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلم أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ خَلَقَ الرَّحْمةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فجَزَّأَها إلى مائةِ جُزءٍ أو نَوعٍ، فجَعَلَ عِندهُ تِسْعةً وتِسْعِينَ جُزءًا يَرحَمُ بها عِبادَه يوْمَ القيامةِ، وجَعَل بيْن خلْقِه وعِبادِه في الدُّنيا جُزءًا واحِدًا يَتراحَمون به فيما بيْنهم.
لذلك جعل الله عز وجل لعباده جزءا من رحمته، في الدنيا، يتراحمون به بين بعضهم البعض، فما نراهُ مِن تَراحُمِ الخلْقِ، وتَوادِّهِمْ، وتَعاطُفِهمْ فيما بيْنهمْ، وصَفْحِهمْ عنِ الزَّلَّاتِ؛ كلُّ ذلكَ مِن الرَّحمةِ الواحِدةِ، وهذا يدُلُّ على عَظيمِ الرَّحمةِ يوْمَ القِيامةِ، وهذا يوضِّحُ أنَّ أمْرَ القيامةِ عَظيمٌ جدًّا، حتَّى إنَّ اللهَ ادَّخرَ تِسعًا وتِسعينَ رَحْمةً!.
وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه لَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ ما عند اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الجَنَّةِ، فلمْ يَسْتبعِدْ في نَفْسِه دُخولَها، بل يحصُلُ له الرَّجاءُ فيها؛ لأنَّه يُغَطِّي عليه ما يَعلَمُه من العذابِ العظيمِ.
ولَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بكُلِّ الَّذِي عِندَ اللهِ مِنَ العَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِن النَّارِ، فلمْ يَستبعِدْ في نَفْسِه أنَّه سيَدخُلها ولنْ يَخرُجَ منها.
والمعنى هو أنه يَنْبغي للمسلمِ ألَّا يَغترَّ بكَثيرِ عَملِه وطاعتِه؛ فيَفقِدَ رَحْمةَ اللهِ تعالَى به، ولا يَيْئَسَ مِن رَحْمةِ اللهِ تعالَى بقَليلِ الطَّاعةِ والعِبادةِ، فيُوجِبَ عَذابَ اللهِ عليه.
اقرأ أيضا:
لا تدع الإيمان ينقص في قلبك وجدده بهذه الطريقةمن أسرار الرحمة
ويدل الحديث على أن لله تعالى رحمتان: رحمة مخلوقة خلقها لعباده، وأرسلها فيهم، وبها يتعاطفون ويتراحمون، ورحمة هي صفة ذات لله، وهي مطلقة قديمة غير مخلوقة، ولا تعتورها التجزئة والتقسيم والعد والإحصاء والتصور، بل هي فوق تصوُّرات جميع مخلوقات الله تعالى بما فيهم أنبياء الله عز وجل وملائكته وأصفياؤه.
فالرحمة المخلوقة خلقها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، بدليل حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة)).
وقد قسم الله تعالى الرحمة المخلوقة إلى مائة قسم، أمسك عنده تسعًا وتسعين قسمًا، وأرسل رحمة واحدة منها بين عباده في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة.
لذلك ترى جميع مخلوقات الله من الإنس والجن والدواب والطير وغيرها، يتراحمون بهذا الجزء الواحد من مائة جزء من رحمته المخلوقة، وهذا من عطاء الربوبية التي يشترك فيها البَر والفاجر، والمؤمن والكافر، والموحد والمشرك، لذلك قد تجد الكافر والمشرك والفاجر رحماءَ في بعض المواطن والأزمنة، وقد تجد الوالدة وهي كافرة أرحم بولدها من غيرها، وتؤثره على نفسها، وتجد بين غير المسلمين من يؤسس منظمات لحماية حقوق الحيوانات والمحافظة على البيئة، ولا يكاد يظلم حيوانًا، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها)).
فإذا كانت رحمةً واحدةً من هاته الرحمات المائة المخلوقة، تسَع جميع مخلوقات الله تعالى، فكيف ببقية أقسام رحمته التسع والتسعين المخلوقة، بل كيف برحمته المطلقة اللامتناهية سبحانه وتعالى؟!.
الرحمة في رمضان
ومن أعظم خصائص شهر رمضان أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين ) رواه مسلم .
ومن أعظم أبواب الرحمة في رمضان فهو باب الصيام ، فصوم رمضان ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام ، فقد فرض الله صوم رمضان في كتابه العزيز فقال جل وعلا : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
و بشر النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين فيما روي عن ربه عز وجل في الحديث القدسي ( قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به. والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
فالمسلم إذا صام يستشعر أنه يؤدي عبادة من أجل العبادات وقربة من خير القربات وفريضة من أعظم الفرائض .
و من أبواب الرحمة في رمضان باب القيام : قال صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه .
فالقيام في رمضان من الشعائر العظيمة التي سنها رسول الله , صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله ورغّب فيها.
ومن أبواب الرحمة في رمضان باب القرآن الذي أنزل في شهر رمضان ، يقول الله تعالى : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ).
اقرأ أيضا:
تتبع خطوات الشيطان بمواقع التواصل حتى الوقوع في فاحشة الزنا.. كيف تتجنبه وتتوب منه؟ومن أبواب الرحمة في رمضان باب الدعاء:
قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فاستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة 186.
ومن أبواب الرحمة أيضاً في رمضان باب السحور، وهو سنة نبوية وعون للمسلم على الصيام وبركة من البركات، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( تسحروا فإن في السحور بركة ) متفق عليه .
ومن أبواب الرحمة في رمضان باب الصبر ومجاهدة النفس:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) .
ومن أبواب الرحمة في رمضان باب الصدقات، فالصدقة في رمضان أفضل من الصدقة في غيره .