لم يخلق الله عز وجل الناس عبثًا، ولم يظلمنا إذ جعَلَنا في هذه الدنيا الزائلة الجائرة؛ ومع هذه الضغوط التي نحيا فيها بشكل مستمر، خاصة في ظل هذه الأيام، مصداقا لقوله تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)سورة البلد، يتطلب من الإنسان أن يعرف قيمة هذه الدنيا الزائلة، ومقدارها الحقيقي، حتى لا يظلم نفسه بالانشغال بها عن الهدف الأسمى وهو جوار الله عز وجل، فقد خلق الله عباده لحياةٍ أزلية سرمدية، لا موت يعكِّرها، ولا انقطاع يكدِّرها، ونبهنا أن هذه الحياة الدنيا التي نحياها الآن ما هي إلا مرحلة في سبيل الوصول إلى الحياة الأبدية.
لماذا خُلقنا؟
لا يضر أن تكون هذه الحياة الدنيا التي نبتئس لها وننشغل بها ونعطيها أكبر من حجمها سواء كانت طويلة أو قصيرة، أو ناعمة أو بائسة؛ هي مجرد طريق قصير نمر من خلاله، للعيش الحقيقي أمامنا في دار الخلود، والخير والنعيم في انتظار من كانت أياديه بالخير ممتدةً إلى الناس، بعد إيمانه بالحقيقة الكبرى التي لأجلها خُلق هذا الكونُ، وما فيه، ومَن فيه: (لا إله إلا الله).
فما قيمة أي متعة في الدنيا ما دامتْ مهدَّدة بخطر الموت، الذي أصبح يتخير الصغير قبل الكبير، والشاب قبل المسن، فكم مرة استيقظت على خبر وفاة صديقك الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره، أو جارتك التي مازالت تدرس في مرحلة الثانوية، نتيجة الضغوطات التي نحيا بها كل يوم.
فهذا الموت فاصلٌ قصير بين حياتين: أولاهما: هذه الحياة الدنيا القصيرة، وثانيهما: حياة على ما ينبغي أن تكون عليه الحياة؛ حياة كاملة حقيقية فيها نعيم خالص، بل إن الميت الصالح لَمنتقل بموته إلى نعيم أخروي يبدأ في قبره؛ فيفسح له فيه مدَّ بصره، ويصير في روضة مِن رياض الجنة، فيكون بموته قد استراح مِن شقاء الدنيا وعنائها، وسوء عشرة أهلها.
اقرأ أيضا:
كيف تستعد ارمضان من الآن؟.. تعرف على أهم الطرق والوسائلجوار الله خير من جوارك:
وخير مثال على فهم طبيعة هذه الحياة الدنيا، ما قدمه الصحابي الجليل عثمان بن مظعون رضي الله عنه، حينما عاد مِن الحبشة مع مَن عاد مِن المسلمين، لَم يَدخُل أحدٌ منهم إلَّا في جوارِ واحدٍ مِن المشركين، وكان عثمان ممَّن دَخل معهم بِجوار، فدخل في جوار الوليد بن المغيرة.
لكن لمَّا نظَر عثمان بن مظْعون ورأى ما فيه أصْحاب رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم من البلاء، وهو يَروح ويغْدو في أمان الوليد بن المغيرة، قال: "والله، إنَّ غُدُوِّي ورواحي في جوار رجُلٍ مِن أهل الشِّرك، وأصحابي وأهلُ ديني يَلْقَون مِن البلاء والأذَى في الله ما لا يُصيبُني - لَنَقْصٌ كثير في نفسي".
فمشَى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له: يا أبا عبد شمس، وَفتْ ذمَّتُك، وقد رَدَدْتُ إليْك جوارَك.
قال له: لِمَ يا ابن أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي.
قال: لا، ولكنِّي أرضى بجوار الله عزَّ وجلَّ، ولا أُريد أن أستجير بغيرِه.
قال: فانطلِق إلى المسجد فاردُد عليَّ جواري علانية.
قال: فانطلقا، فخرجا حتَّى أتيا المسجِد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاءَ يردُّ عليَّ جواري، قال عثمان: صدق قد وجدتُه وفيًّا كريمَ الجوار، ولكنِّي قد أحببتُ أن لا أستجيرَ بغيْر الله، فقد رددتُ عليْه جوارَه.
ثمَّ انصرف عثمان رضي الله عنْه، وكان لبيد بن ربيعة في مجلِس من قريش يُنشِدُهم الشِّعْر، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد:
أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ
فقال عثمان: صدقتَ.
ثمَّ قال لبيد:
وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ
فقال عثمان: كذبتَ؛ نعيمُ الجَنَّة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، واللهِ ما كان يُؤذَى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟!
فقال رجُل من القوم - أي: مِن قريش -: إنَّ هذا سفيهٌ في سفهاءَ معه، قد فارقوا دينَنا - يقصد: عثمانَ بن مظعون، ومَن آمَنَ معه مِن الصَّحابة الكرام، رضي الله عنهم - فلا تَجِدَنَّ مِن قولِه؛ أي: مِن قول عثمان.
فردَّ عليه عثمان حتَّى شَرِيَ أمرُهُما، فقام إلى عثمان رجُلٌ مِن المشْركين فلطمَ عينَ عثمان حتَّى خضَّرها، والوليد بن المغيرة قريبٌ يُراقب مِن بُعد ما حدث لعثمان.
فقال الوليد لعثمان: يا ابن أخي، إنْ كانت عينُك عمَّا أصابها لغنيَّة، ولقد كنتَ في ذمَّة منيعة.
فقال عثمان بن مظعون رضي الله عنه وكلُّه يقينٌ مُستَعْذِبًا ما لاقاه مِن أذَى المشركين في سبيل الله، رافعًا هامتَه شامخةً شموخ الجبال، وهكذا المؤمِن يَعلم أنَّ ما أصابه في سبيل الله لا يَضيع ثوابُه وأجره عند الله، فيقول عثمان للوليد: بل والله إنَّ عيْني الصَّحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختَها في الله، وإنِّي لفي جوار مَن هو أعزُّ منك وأَقْدَرُ يا أبا عبد شمس.
فما دلت عليه القصة التي قدمها الصحابي عثمان بن مظعون أن هذا الجوار الذي تحيا فيه بالحياة الدنيا هو جوار قصير الأجل لا راحة فيه، بل إن الجوار الحقيقي هو جوار الله فلا تحزن وتفاءل خيرا بما هو أحق ان تعمل من أجله.